حلم على صفيح ساخن .

 

إب نيوز ٢٦ مايو

رويدا البعداني

في دهاليز الأمنيات كان الخيار أن نشهق زفرات لا تكاد تستقيل ، تعتلينا الأوجاع عنوة ، ويكتسينا الصمت بلحظة ، تترصدنا نوائب الدهر الكالح بغتة ، ويرتدينا الليل عباءة سوداوية خفية ، تثقل كواهلنا النحيفة لنرتمي حينها في جوف الخيبات بأقدامنا الواهنة ، فلا ندري هل حرام كان الحلم في رقاع الأرض أم كان ضريح الوطن هو القضية ؟
ومثلنا قد وقع ضحية .

جهلت أبصارنا الجلاد وأنتحبت للضحية ، وجوه متشابهة ما بين الفينة والأخرى نراها متجددة ماكرة ، حتى الأيادي جميعها ملطخة بالدماء متعطشة لها، قلوب صدئة لا تعرف للرحمة فج وسبيل ، غدت في غضون شهور وسنين منبع للكراهية وحب الأنا وعلى هذا المنوال تهالكنا فما عدنا نعرف للحياة سبيل .

وياللعجب العجاب حين سمعت في صغري أن الوأد عادة جاهلية كانت قيد الافتعال في الزمن الجاهلي الخرف القديم للبنات دون البنين ، لكني تفاجأت اليوم حين رأيتها متعلقة بتلابيب أحلامنا العشرينية مخلفة لنا جروح غائرة، لن ننساها على مر السنين .

عرفت حينها أن الجميع يكذب وأنا تلك عذراء الأحلام الغبية وحدي من صفق وصدق هذا المنطق اليتيم، قررت في يومٍ عقيم قد أزف أمله بولادة جديدة وشيء من هذا القبيل، أن أحيا بأحلامي رغم كبواتي الماضية، أن اخلع أطماري البالية واستبدل وجهي المرمري بوجه في ريعان شبابه ، فأنا بت إنسان جديد للتو ولد.

أطلقت زفراتي، ورممت بقاياي، وعاهدت صباي بأن يكن نديمي، هببت من أوهد حفر الخيبات لأعانق القرص الأصفر برحابة صدر ،وأخبره أن يجود اليوم بأشعته السحرية الذهبية ؛ علنا نرتشف منها الحياة النائمة في أعماقنا المنسية.

هادنت الشجون بعد عقدي معها صفقة وفية لا تخون كما فعلت صفقات الزمن الأولية، أضرمت أمنياتي الشتوية، في مدفأة ردهة روحي الشغوفة.

بعد ردحًا من الزمن القبيح، أخرجتها من صرتها العتيقة التي احتضنت لأعوام أحلامًا بباب العمر لم تعتمر ، وأماني واعدة بعتبة الحاضر لم تكتمل ، أحلام عزلاء واقفة أمام موتها المرتهن تحتضر على أيدي لعنات حروب ضروسة دائمة دامية، أطاحت بالأخضر فحالته إلى يباس.

أحلام توسدت الشيخوخة أعمارها العشرينية خلسة ، كُهل صباحها فيها فجأة فغدت وحيدة إلا من رتوش وجع سرمدي يلتحف حناياها وبقوة، لكنها سرًا حبلت بالتفاؤل وعاشت على قوت الأمل.

وفجأة ؟

إذ بصوت المذيعة يقتحم منابر الإعلام، بصوت بلبلي شجيَّ يهتف أنه قد انطفأت الحروب في كل الأوطان، واجتمع الحكام أخيرًا على مائدة الوئام، وتم التعاهد أن يكن السلام شعارنا من الآن ،والظلم الذي تداعى عليه الصمت في سنين الحرب سيزج في سجن العقاب وسيتجرع أصناف العذاب.

وأنتم أيها الصغار الكبار ، هلموا كالفراشات الظامئة للحرية ، ألهو في ربوع الحيَّ فزمن الذعر والخوف قد هُلك واختفي ذبيبه ، لاعليكم فدخان الحرب تبدل لنسائم رونقية كقلوبكم النقية ، رِمم الحروب قد زال أثرها وكأنها بيومٍ لم تكن، عادت الحياة كما كانت عليه في الماضي لحالها في الحاضر ، فهاهو ناقوس الطفولة قد دق من جديد يخبركم، أن ابستموا وعيشوا وأفرحوا وأحلموا فالزمن الجميل لأيامكم هاهو آتِ لا محالة .

ومع هذه الأجواء الزاهية ، وأطلالها البهية ، نهدي كبسولات سعادة واطمئنان ، لأجل ثكالى الحروب ، ويتامى الأوطان ، ولأولئك المسنين الذين كبروا فوق أعمارهم إزاء مافعلته بهم نوائب السنين في ذلك الحين .

نأتي أخيرًا إلى جيل الصيحات والصرخات، جيل الرمق الأخير ، والنفس الطويل ، الجيل الذي أحالته ظروف الحرب إلى نازح يبحث عن تراب وطن آخر يتنفس عليه تربة لم تدس عليها أقدام العصاة بأحذية خائنة، ولم يباغتها الحظ بالدمار .

يبحث عن مفتاح سحري لتلك المدارس والمنافذ والجامعات والمطارات المغلقة مُنذ مدة ، يفتش عن وسيلة طبية جديدة ، يقضي بها على تلك الأوبئة القاتلة التي تمردت في انتشارها في الآونة الأخيرة ، ويعيد دبيب الحياة إلى المرضى القابعين في المستشفيات ، على كراسي متعبة كحالهم المضمحل .

رفوف أدوية تفتقر لأبسط الدواء فالحصار كان جلاد الحياة لهم مع صمت أممي مخزي ، أيها الجيل الواعد ذو الحلم المنشود هانحن نزف ڵك البشرى ، بأن كل مآسيك الصغيرة والكبيرة تم حل اشكاليتها ، فالأقفال المغلقة قد فتحت ، وأزمنة الأوبئة والعلل قد ولت ، فهيا ردد من مآذن جل العوالم أنه قد حي على الحياة ، والله أكبر .

وقبل الختام صعقتني النهاية كما تفعل عادة بالمسلسلات والأفلام إذ بصوت أختي الرنان يقتحم رقادي وقد عشش في مدينة الأحلام ، إذ يخبرني أن الساعة الكسلى بلغت بموعدها التاسعة وأن مائدة الإفطار تنتظر مجيئي مُنذ الثامنة.

فهلا استيقظت بسرعة ؟
حينها عرفت أني غفوت وأنا أكتب عن الأمنيات والأحلام فالحلم إبتدأ من صوت المذيعة وللأسف انتهى بصوت أختي الرنان.

خسئت أيها الواقع وثكلتك كل الأوطان ، فأنا من اليوم أقايضك وأطلب من محمكة الأرض بإصدار حكمك بالإعدام .. والسلام ختام .

انتهى

*•••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••*

9/ أيار/ 2020

You might also like