قراءة في السياسة الأمريكية.. من حرب المفاهيم الفكرية إلى اغتيال العقول

إب نيوز ٢٥ يونيو

لا تزال العراق حتى اليوم تحت الاحتلال والوصاية الأمريكية وإن تم الإعلان أكثر من مرة عن رحيل الجيش
أمريكا زرعت الطائفية والإرهاب ليتناحر العراقيون في ما بينهم بينما شركاتها مؤمّنة تنهب الثروات في الواحات الغنية بالنفط
باحثون:
التهيئة للعدوان على العراق بدأت بحرب فكرية عممت مفاهيم وشعارات زائفة خاطبت عواطف الناس واستهدفت عقولهم
تقارير:
أمريكا قتلت قرابة 850 عالماً نووياً وفيزيائياً وأكاديمياً ومعرفياً وضابطاً وطياراً في العراق وفي الدول العربية والإسلامية
مراقبون:
جرائم الاحتلال الأمريكي في العراق دحضت ادعاءات الإدارة الأمريكية الموصولة بحقوق الشعوب
خلف كل شعار أمريكي رصين بمفردات قيم الحرية، والديمقراطية وحقوق الإنسان، تكمن النوايا الخبيثة لارتكاب أبشع الجرائم بحق الشعوب، تلك هي السياسة الأمريكية المبنية على النظرية الميكافيلية، «الغاية، تبرر الوسيلة»، والتي تعني من وجهة نظر برجماتية، توظيف كافة القيم والأخلاق والقدرات في سبيل الإقناع، بفكرة ما من أجل الوصول إلى غايتك، بأي ثمن كان وبأي وسيلة كانت على حساب قيم الخير والأخلاق التي تنادي بها.. فكيف جرت هذه المفارقات الأخلاقية في الغزو والاحتلال الأمريكي في العراق..؟ وما هي المعارك الفكرية التي سبقت الغزو والاحتلال ورافقتهما على الأرض..؟ وما هي الجرائم التي ارتكبها الأمريكان بحق العراق، أرضا وإنساناً وحضارة..؟ وكيف اغتالت الإدارة الأمريكية العقل المستنير للأمة في العراق وغير العراق، وماذا جرى في سجون العراق من قبل المارينز الغازي والمحتل..؟ وكيف ولماذا صنعت أمريكا الطائفية..؟ وما هي الثروات التي سيطرت عليها..؟ كل هذا وغيره من الأسئلة سنجيب عنها في هذه القراءة الاسترجاعية لفصول الحرب الأمريكية على العراق….. إلى التفاصيل:

قراءة/ محمد إبراهيم

في سياق الحروب الصليبية والفكرية التي خاضتها أمريكا ضد الأمة العربية والإسلامية عامة وضد العراق خاصة، قال المفكر الموسوعي البروفسور عبد الستار الراوي في معجم العقل السياسي الأمريكي المعاصر: كما تحشد الولايات المتحدة لحروبها الامبريالية؛ الجيوش والمعدات والإمكانيات، فإنها تعد وتجهز وتسوق لـ(حرب الأفكار) بتكريس جهود عشرات مراكز التفكير ومعاهد الأبحاث، ومراصد المتابعة، ووراء كل مواجهة ميدانية، أو منازلة عسكرية، صغرت أم كبرت، يشتد الصراع بين فكرة وفكرة، وبين عقيدة وأخرى، تنتهي إلى تنازع بين قناعات وقناعات وبين مناهج ومناهج، إذ لا يمكن أن تتحرك الإرادات على أرض الواقع دون دوافع في العقول والقلوب والضمائر.
وأكد الراوي أن حرب المفاهيم والمصطلحات أو حرب الأفكار، كانت ولا تزال هي الحرب الأخرى التي تواصل الولايات المتحدة وحلفاؤها شنها على الأمة العربية والإسلامية لحساب الليبرالية الرأسمالية الجديدة، وهي آخر صياغات العقل السياسي الأمريكي في العقد الأول من الألفية الثالثة.. ويروِّج لها في أقطار الوطن العربي وعالمنا الإسلامي، تيار (الليبراليين الجدد). أصحاب نظرية (الحد الأدنى) والقبول بالأمر الواقع، القائم على مهادنة الأعداء، والتطبيع مع الكيان الصهيوني المغتصب، والاستقواء بجيوش الأجنبي لتدمير واحتلال الأوطان؛ عن طريق تزييف المفاهيم وتزوير الحقائق، وضلالة شعارات الإصلاح والتعددية والديمقراطية والتبادل السلمي للسلطة، لإنتاج وعي مغاير يدعو إلى تفكيك وحدة الدول وتجزئة المجتمعات باسم المحاصصة الدينية والمذهبية والعرقية لإقامة دول الطوائف وفيدراليات الأحزاب المتنافرة”.
الأهم في صراع الأفكار وترويج القناعات المغالطة للشعوب، فتتجسد في حمل شعار السلام والعدالة وتحرير الشعوب من الديكتاتوريات، وإرساء الديمقراطية والتعددية السياسية، لكن الذي يحدث هو العكس تماما، ولا يجد المؤرخ والمتابع والمدقق من كل تلك الشعارات شيئاً، بل لمس وسيلمس النقيض والمنافي تماما للشعارات، على قاعدة أن السياسة بلا أخلاق وأن السياسي المستبد والحاكم الظالم. لا يعني ما يقول، ولا مبالغة في ذلك، فقد قال الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش، وبكل وقاحة قبيل المعركة العدوانية على العراق: “لا نريد غزو العراق وإنما تحرير الشعب العراقي”؛ والأغرب في هذا الشعار هو الانسياق الأعمى لشرائح واسعة من الشعب العراقي والعربي من حلفاء أمريكا وإسرائيل، فهل كان هذا الشعار صادقا..؟ لقد أجاب الواقع الدامي في العراق عن السؤال، بأنه أكبر كذبة في حروب العصر، لقد غزا العراق، واحتلها وما خلَّفه الغزو أكبر بكثير من الغزو نفسه، إذ وجد العراقيون أنفسهم أمام كارثة كبرى، أفقدت البلاد تماسك المجتمع والاقتصاد والأمن والخدمات.. لكن كيف جرى هذا على الأرض؟
مسار الحرب التصاعدي
في مطلع يناير 2003م أعلن بوش، في خطاب ألقاه بقاعدة “فورت هود” بولاية تكساس وهي أهم القواعد العسكرية الأمريكية، أن بلاده جاهزة ومستعدة للتحرك عسكرياً “إذا رفض العراق نزع أسلحة الدمار الشامل التي يملكها.. وكعادتها قوى الاستعمارية التي على رأسها أمريكا لا تدخل الحروب بمفردها فقد شكلت إلى جوارها تحالفاً دولياً كبيراً على قاعدة تقاسم الثروات، وفعلا انضمت إلى أمريكا وبريطانيا نحو عشرين دولة إضافة إلى قوى المعارضة العراقية، كقوات البيشمركة التابعة للحزبين الرئيسيين في كردستان بزعامة جلال طالباني ومسعود البرزاني.
وفي عشية التاسع عشر من مارس من العام 2003م، وتحت شعار “الحرية من أجل العراق”، بدأ التحالف الأمريكي البريطاني وأدواته في المنطقة، معارك غزو العراق، على خلفية مزاعم “التهديد الخطير” الذي يمثله البلد على العالم، إذ أشاعت دول الغرب برئاسة واشنطن ولندن امتلاك بغداد لأسلحة دمار شامل، مؤكدة أن حلفاءها في الخليج هم الهدف الأول لهذا الخطر، وأن من واجبها ردع الخطر والوصول إلى أسلحة الدمار الشامل وتدميرها حفاظاً على حلفائها، إنها المصالح المغلفة، بشعارات مساعدة الشعب العراقي للتخلص من حكم النظام الصدامي الديكتاتوري.
ومنذ تلك الليلة شهدت العراق على مدى 19 يوماً معارك ضارية حتى احتلال بغداد في مطلع أبريل 2003م، ولم تتوقف المعارك بسقوط بغداد، بل واجهت القوات الغازية مقاومة شرسة ومستميتة، من الجيش العراقي الذي كان يقاتل دون غطاء جوي، لكن تلك القوات ألحقت بالغزاة خسائر فادحة في الأرواح، حيث خسرت أمريكا 4500 جندي لقوا مصارعهم على أرض العراق وأصيب نحو 30 ألفاً آخرون، و179 جندياً بريطانياً.. بينما قدرت الإحصاءات عدد الشهداء العراقيين الذين سقطوا على مدى خمس سنوات منذ بدء الحرب نحو مليون شهيد وجريح جلهم من المدنيين، منهم 655 شخصاً استشهدوا في المواجهات أو تحت القصف الأمريكي، من أصل 26 مليوناً هم سكان العراق بحسب إحصاءات ما قبل الاحتلال.. في حين اعترف الجيش الأمريكي بمقتل نحو 77 ألف عراقي بين يناير 2004م وأغسطس 2008م، بينهم نحو 63 ألف مدني، والباقون من العسكريين.
الانكشاف.. فصل جديد من الإجرام
بعد انتهاء الحرب على العراق تشكل فريق دولي أممي أمريكي وتم تعيين الخبير الأمريكي ديفيد كاي رئيس فريق مفتشي الأسلحة لتحقق حول أسلحة الدمار الشامل العراقية، وبعد تسعين يوما من البحث المكثف في العراق شارك فيه أكثر من 1200 خبير وكلفت مهمتهم نحو 300 مليون دولار، لم يعثر المفتشون على أي من تلك الأسلحة التي اتخذها الرئيس بوش ذريعة لشن الحرب، وبدلا من أن يصارح الشعب الأمريكي بالحقيقة، اعتبر جورج بوش أن مضمون التقرير يؤكّـد أن صدام حسين كان خطرا على العالم..
هذا الانكشاف، لم يكن نهاية المكر الأمريكي بل كان بداية لمسار الإجرام غير المسبوق في التاريخ، حيث جر العراقيون إلى السجون وانتهكت الحرامات، وداس الأمريكان شرف الأسر العزل، وفي السجون ارتكب ما هو أبشع، وأمام عدسات الكاميرا في مشاهد تعذيب وحشي وإذلال وانتهاكات جسدية جنسية وتكديس السجناء فوق بعضهم وهم عراة وصعقهم بالكهرباء، ومهاجمتهم وهم مقيدون بواسطة الكلاب، وإجبارهم على أوضاع جنسية مخلة، وغير ذلك من الممارسات التي تعد من أبشع الجرائم ، التي تدل على السجل الأسود والبربري لأمريكا في العالم، ولم تكن تلك الجرائم صادرة عن سلوك شخصي لأفراد المارينز بل سلوك إجرامي عكس الجانب الرسمي والمؤسسي للإدارة الأمريكية والممارسات التاريخية الدنيئة للأمريكان بحق البشرية، والدليل على رسمية تلك الممارسات البشعة، هو تلك المشاهد والصور التي تسربت من وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاجون)، حيث نشرت الوزارة في 2016م بعد 12 عاماً من المرافعات القضائية، أكثر من 198 صورة تظهر التعذيب الوحشي الذي مارسته القوات الأميركية ضد المعتقلين في العراق وأفغانستان، وكان سجن أبو غريب أبرز المعتقلات في العراق.. ولم تكن تلك الصور هي الوحيدة، بل امتنع البنتاجون عن نشر مئات الصور الأخرى.. فيما أفاد السجناء الذين نجوا من معتقل (أبو غريب) انهم تعرضوا لأبشع أنواع التعذيب، من الصعق بالكهرباء والإيهام بالغرق، والحرمان من النوم، والإذلال الجنسي، في رحلة عذاب دامت نحو أكثر من عام، قبل أن تكشف جرائم سجن ابو غريب في العام 2004م.
تصفية العلماء
لم تتوقف جرائم الحرب العدوانية الأمريكية عند سجن أبو غريب أو عند الدمار الشامل للبنية التحتية والمؤسسة العسكرية العراقية، وأهم معالم حضارة بلاد ما بين النهرين، بل مضى الاحتلال الأمريكي إلى تقويض المقومات البشرية والعقل المستنير للامة العربية والإسلامية عامة للشعب العراقي خاصة عبر سلسلة اغتيالات هي الأطول والأكثر إرهابا في العالم طالت علماء الأمة العربية والإسلامية سواء داخل الوطن العربي أو في دول العالم، لكن علماء العراق شكلوا الهدف الأكبر لهذه العمليات وخاصة من لهم صلة ببرامج التسلح العراقية الكيمائية والبيولوجية والنووية، من العلماء النوويين والطيارين العراقيين.. إلى أن وصل عدد العلماء والخبراء الذين طالتهم الاغتيالات وفق الوثائق المسربة دوليا إلى 350 عالماً نووياً و80 ضابط طيران من القوات الجوية العراقية، وأكدت الوثائق قيام الموساد باغتيال 530 عالما عراقيا وأكثر من 200 أستاذ جامعي وشخصيات أكاديمية ما بين 2003م و2006م.
كما لم تكتف بالاغتيال بل عملت على استقطاب وإكراه أعداد كبيرة من العلماء العراقيين للعمل في مراكز أبحاثها ونقلت أمريكا جوا سبعين عالما عراقيا خارج العراق، ووضعتهم في مناطق نائية خشية أن يسربوا ما لديهم من معلومات أو أن يحولوا تلك المعلومات إلى منظمات أو دول معادية لأمريكا…
ورد في دراسة لدار بابل للدراسات والإعلام أن فرق الموت التابعة للموساد الإسرائيلي أدت دورا هاما في عمليات الاغتيال التي نالت من العلماء العراقيين، في محاولة منها لمنع العرب من امتلاك الطاقة النووية، وبرز هذا الدور بشكل كبير في فترة الاحتلال الأمريكي للعراق، فبعد فشل الولايات المتحدة في إقناع علماء الذرة والبيولوجيا العراقيين بالتعاون معها والعمل في خدمتها، تحركت عناصر الموساد لتصفية هؤلاء. ورصدت إسرائيل أجهزة ومعدات ومتخصصين وأموالا لهذا الغرض.
وكشفت تقارير صادرة عن منظمات حقوقية أمريكية أن الموساد الإسرائيلي قام باغتيال 530 عالما عراقيا وأكثر من 200 أستاذ جامعي وشخصيات أكاديمية ما بين 2003م و2006م، وتشير معلومات أخرى إلى أن الموساد جند 2400 عنصر، إضافة إلى وحدة نخبة سرية تتضمن أكثر من 200 عنصر مؤهل من قوات البيشمركة من أجل الإجهاز على العلماء وتصفيتهم.
وتذكر دراسة للأستاذ إسماعيل جليلي بعنوان “محنة الأكاديميين العراقيين” أن الموساد الإسرائيلي شن 307 اعتداءات على الأكاديميين والأطباء، وتمكن من اغتيال 74 % منهم..
الثروات.. الأهداف الحقيقية
إن مصالح أمريكا على المستوى الداخلي من اقتصاد قوي، وموارد مالية توفر الرفاهية للشعب الأمريكي يتطلب أموالا كبيرة، ولن تتوفر هذه الأموال إلا بالحروب الخارجية التي تشنها الإدارة الأمريكية في الخارج على أفقر المجتمعات، لاستلاب ثروات الشعوب والأقليات في العالم عبر هذه الحروب، فكان الهدف الحقيقي الكامن وراء آلة الحرب والدمار على العراق أكبر من الحديث عن الغزو برمته، إذ ارتكز هذا الهدف على تحمس الحكومتين الأمريكية والبريطانية لوضع اليد على ثروة العراق النفطية الهائلة، فقد أكدت تقارير دولية أن التحريض على غزو العراق كان صادراً في البدء والأخير من طرف مسؤولي شركات نفط أمريكية كبيرة، من بينها مثلاً مجموعة “هاليبيرتون” النفطية التي كان ديك تشيني، نائب الرئيس الأمريكي آنذاك، يتولى إدارتها حتى عام 2000م، مستدلة على صحة ذلك بأن وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاجون) منحت هاليبيرتون، دون التقدم بعروض مناقصة، في نوفمبر 2003م، عقدَين مختلفين: الأول بسبعة مليارات دولار لإعادة تأهيل البنى التحتية النفطية العراقية، والتزويد بالمنتجات النفطية المكررة في البلاد، والثاني لتقديم دعم لوجستي للقوات الأمريكية في الشرق الأوسط وآسيا الوسطى بقيمة 8.6 مليار دولار..
الوثائق التي تداولتها وسائل الإعلام العالمية بما في ذلك الوسائل الإعلامية الأمريكية، أثبتت وجود علاقة قوية بين شركات ومؤسسات نفطية وعملية غزو العراق، مضيفة: إن خططاً لاستغلال الاحتياطي النفطي العراقي تمت مناقشتها بين مسؤولين حكوميين وبين كبريات الشركات العالمية، خاصة البريطانية منها (بينها شركات “شل” و”بي بي” و”بي جي”) قبل عام من تاريخ الغزو، ولم تبرح تلك الشركات وجودها من أراضي العراق بانتهاء الحرب والغزو بل ظلت الشركات مؤمنة حتى اللحظة تنهب الثروات النفطية في الصحارى والواحات الغنية بالنفط العراقي، وحتى بعد الإعلان الصوري لأمريكا عن رحيلها من العراق في 18 ديسمبر 2011م. وكانت بريطانيا بدأت سحب قواتها من جنوبي العراق مطلع أبريل 2009، وأكملته بشكل نهائي يوم 22 مايو 2011م، ولكن رحيل القوات الغازية لم يتم إلا بعد أن زرعت الطائفية والإرهاب ليتناحر العراقيون فيما بينهم، بينما الشركات المذكورة مؤمنة تماما، لا يصلها المتحاربون، وعرفت العراق لأول مرة اقتتالاً طائفياً مريراً، لا تزال مشاهده ماثلة حتى الآن..
الحضارة العراقية.. تدمير ممنهج
في صبيحة التاسع من إبريل 2003م، انتشرت القوات الأمريكية في بغداد، العاصمة العراقية، مُعلنة إنهاء حكم حزب البعث ونظام صدام حسين رئيس العراق الأسبق، وبهذا تكون الإدارة الأمريكية قد قضت على حاضر العراق حينها ومستقبله، إلى الآن، ولأنها تدرك أن للعراق ماضياً حضارياً مشرقاً قد ينهض في أي لحظة، فقد عمدت إلى استهداف معالم ذلك الماضي المشرق، قصفا ونهبا، ابتداء من تدمير مدينة أور الأثرية عاصمة السومريين في جنوب العراق،-التي تعرضت قبل 12عاماً من ذلك الاحتلال الميداني لضربة صاروخية بأحد الصواريخ المدمرة، عام 1991م- وفي مارس 2003م ضربت إحدى الطائرات الأمريكية منطقة المعابد في أور وعملت حفرة كبيرة, وقامت شظايا الصاروخ بتهشيم واجهة زقورة أور المطلة على معبد “كيك ــ بار ــ كو”, ولا تزال حفرة الصاروخ موجودة إلى الآن، وكان ذلك العدوان برمته لا يخرج عن كونه غيرة وحسداً حسب المراقبين والمتخصصين، بما تملكه العراق من إرث حضاري عريق فيما تملك أمريكا التي قامت على أنقاض الهنود الحمر سجلا مخزيا من الدماء والدمار.. كما عمدت القوات الأمريكية، إلى تحويل مدينة أور الأثرية، إلى ثكنة عسكرية، لتجول دباباتها ومدرعاتها وسيارات الهمر الضخمة، قرب الزقورة، وأعلى المعابد السومرية، ولا يسمح لأي أحد من العراقيين بالدخول إلى تلك المسارح والمعالم الأثرية والحضارية، في انتهاك صارخ، لكل الأعراف الإنسانية والقوانين.. ولم تكتف تلك القوات، بتدمير المدينة وحدها فقط، بل دمرت آلة الحرب الأمريكية متحف الناصرية الذي يعد من أهم الصروح الحضارية للمدينة، حيث استوطنته القوات الأمريكية وحولته إلى ثكنة عسكرية نصبت في أعاليه الجنود القناصة، وراداراتهم، وغرفة مبيتهم وطبخهم وطعامهم ونفاياتهم دون أدنى احتجاج من قبل أي مسؤول في حكومات ما بعد 2003م.
كما تعرض المتحف العراقي الوطني في بغداد إلى أكبر عملية سرقة في التاريخ، حيث دخل إليه اللصوص عراقيين وعربا وأجانب، وعمت الفوضى فيه على مرأى ومسمع من القوات الأمريكية التي كانت قريبة من المتحف، ولم تمنع اللصوص من دخول المتحف، جعلت ذلك غطاء لمسرح جرائمها في تهريب أهم القطع الأثرية وأهم محتوياته من الآثار العراقية الثمينة، والقطع البرونزية، واللوحات الفنية التاريخية والمجسمات البابلية، وغيرها، ليس هذا فحسب بل تعرض ما يقارب من خمسة عشر ألف موقع أثري في حضارة الرافدين للسرقة والنبش, ونهب أهم وأغنى آثاره، واستمر هذا النهب المنظم والسرقات الكبيرة لأكثر من ستة أشهر على الرغم من أن القوات الأمريكية تجوب العراق في كل مكان, وتحمي المؤسسات النفطية والأمنية إلا المواقع والمدن الأثرية بقيت بلا حماية فإنها خارج اهتمامهم أو ربما كان الأمر مقصوداً، حسب الآثاريين العراقيين.
أما بابل ومقدسات السومريين فقد كانت المحطة الأكثر تضررا، بعد أن تحولت المدينة الأثرية إلى قاعدة عسكرية أمريكية, وشارع الموكب الذي سار به ملوك بابل وشعبها وكهنتها سارت به أيضا الدبابات الأمريكية التي دمرت أرضيته وهشمت القطع الأثرية على جانبية، وامتلأت المتارب الأمنية التي جلبوها كسواتر لهم بقطع الفخار وأجزاء الرقم الطينية المسمارية، كما استخدمت القوات الأمريكية، موقع كيش الأثري، إحدى أهم المدن السومرية، قاعدة لتدريب الجيش الأمريكي وهبوط طائراته على هذه المدينة المقدسة تاريخياً، وكذلك مدينة النمرود الأثرية إحدى العواصم الآشورية الأربع، في الموصل التي أنهى تنظيم “داعش” تدميرها أثناء سيطرته على الموصل لسنوات..
منبع المآلات القاسية
إن مآلات الملف العراقي الراهن لم تكن حصيلة معركة اشتركت فيها الآلة العسكرية والجيوش البشرية في اجتياح العراق في مارس 2003م فحسب، بل كانت تلك المعركة الميدانية حصيلة معارك سابقة ومتعددة، بدأت بالاشتباك الأمريكي العسير مع العقل الجماهيري والشعبي والنخبوي للأمة العربية الإسلامية، بدأت بنسج فكرة الصراع العربي الفارسي، ولم تنته بفكرة الواجب الأمريكي في تأمين حلفائها في الخليج من خطر أسلحة الدمار الشامل، بل تجاوزت ذلك إلى تحرير العراق من النظام الديكتاتورية، ثم ضرورة بقاء الجيش الأمريكي تحت ذريعة إرساء الأمن في العراق وتمكين الشعب العراقي الذي اصبح حرا من الحكم وهو ما عرف بخطة بريمر، ثم تدمير معالم حضارة ما بين النهرين، ونهب آثارها تحت ذريعة مواجهة فلول البعث والنظام الصدامي الخطير على العالم..؟ وتحت شعار مواجهة داعش تنظيم “داعش” ، ومحاربة التنظيمات الإرهابية التي أفرزتها أمريكا ودعمتها كمبرر لاستمرار قواتها الغازية في العراق كمحتل فرض أمراً واقعاً على شعب وجد نفسه إما مشرداً خارج وطنه، وإما معذباً في سجون الأمريكان التي شهدت فصول العذاب الأكثر بشاعة في التاريخ، من حيث كونها منافٍية للأخلاق، أو في وطنه الجاثم على صدر أرض تعد من أكبر بقاع الأرض من حيث احتياطات النفط في العالم، لكنه يتقلب في سعير مستنقع الصراع والفقر والمجاعة، يتقاتل مع بعضه في المدن الكبرى بينما نفطه في الصحارى والواحات تحت سيطرة الشركات البريطانية والأمريكية.

الثورة

You might also like