“غزة.. تُمسك القمرَ بين شظاياها وتُعلّم النجومَ كيف تُشرق من كفّ الألم”
إب نيوز ١٣ مايو
بقلم/ فهد شاكر أبوراس
في مدينةٍ تَحملُ اسمَها كجرحٍ مُزمنٍ على خريطة العالم، حيثُ الحُجارةُ تتكلّم بلغةٍ يُجمّلها الرصاصُ بالصمت، تُولدُ الحياةُ من رحم الموت كعصفورٍ يثقبُ قفصَهُ بمنقارِ دمائه. هنا، تُمسكُ غزةُ بيدَي الزمنِ المُتعثر وتصرخ: “مَن قال إنّ السّقوطَ نهايةٌ..!!
تحتَ سماءٍ مقطوعةِ الأنفاس، تُعلّقُ الأمهاتُ أحلامَ أطفالهنّ على خيوطِ الدخان الأبيض، وتزرعُ الجدّاتُ حكاياتِ العودةِ في صدور الصغار كبذورِ زيتونٍ تنتظرُ انكسارَ القيد. أيُّ مدينةٍ هذه التي تُحوّلُ دمعَها إلى بحرٍ يغسلُ وجعَ الحصى، وتصنعُ من صرخاتها سُلّمًا يصلُ الأرضَ بالسماء..!!
البيوتُ هنا تتهاوى كأجسادٍ عطشى، لكنّ جذورَها تتعمّقُ في الترابِ كتاريخٍ لا يُباد. والشبابيكُ المُشرّعةُ على جراحِ العالم تُرسلُ ريحًا عاتيةً تهزّ ضمائرَ النائمينَ في قصورِ الغرب: “هل تسمعون؟ نحنُ لسنا أرقامًا في تقريرٍ إخباري.. نحنُ البوصلةُ التي تبحثُ عن إنسانيتكم الضائعة..!!
في زوايا غزةَ التي تلبسُ العتمةَ كفستانِ زفافٍ مُمزّق، يُضاءُ الأملُ بمصابيحَ من قشّ. طفلٌ يبني بيتَه من ظلِّ نخلةٍ سجينة، وامرأةٌ تُمسكُ رغيفَ خبزٍ كأنه وطنٌ يُصارعُ الجوعَ والنسيان. حتى الحُطامُ هنا يُغني: فالقنبلةُ التي سقطتْ بالأمسِ صارتْ إناءً لزرعِ البصل، وشظيّةُ زجاجٍ تحوّلتْ إلى مرآةٍ تُعيدُ للشمسِ وجهَها الذهبي.
أيُّها العالمُ المُتفرّجُ من شرفةِ التاريخ، أتعرفُ معنى أن تكونَ جدارًا في سجنٍ مفتوح؟! غزةُ تُعلّمك: لا تنتظرْ فرحًا يأتيكَ هديةً، اصنعْهُ من صَبرِ الحجارةِ وترابِ المقابر. فالحياةُ هنا ليستْ محطةً، بل رحلةٌ يَحملُ فيها الموتُ أوراقَ هويةِ الأحياء.
الليلُ يطولُ، لكنّ نجومَ غزةَ لا تُغادرُ سماءَها.
كلُّ انفجارٍ يكتبُ على جبينِ الظلامِ سطرًا من النور: “الأرضُ التي تحتملُ دويَّ الدبّابات، قادرةٌ أن تحتملَ حصادَ القمحِ والأناشيد”. فلا تقلْ “هذا قدرُهم”، فالقدرُ هنا يَرتدي ثيابَ المُقاومةِ ويُقبّلُ جبينَ الطفلِ الذي يُمسكُ قلمًا بين أنقاضِ المدرسة.
غزةُ.. ليستْ عنوانًا لجريدةٍ قديمة، بل قصيدةٌ تكتبُ نفسَها بدمِ العاشقين.
ومهما طالَ الحصارُ، ستظلُّ تُذكّرُ العالمَ بأنّ اليدَ التي تُحطّمُ الأصفادَ قادرةٌ أن تُمسكَ بيدِ القمرِ أيضًا.