عبد الباري عطوان

تتعالى لغة التهديد من قبل اطراف الصراع في سورية.. فالسيد عادل الجبير وزير الخارجية السعودي، الذي صام عنها لفترة، جادت قريحته بعد اجتماع مع وزير الخارجية الامريكي جون كيري في جنيف بتصريح هدد فيه “بأنه اذا لم يتم حل الازمة السورية من خلال العملية السياسية، فسيتم عبر السلاح”، اما مضيفه الوزير كيري فقد هدد بدوره امس الثلاثاء الرئيس السوري بشار الاسد “بعواقب وخيمة” في حال لم يلتزم باتفاق وقف الاعمال العدائية، واحداها قد يكون التدمير الكامل لوقف اطلاق النار ثم العودة الى الحرب”.

غريب امر السيد الجبير، والاغرب منه امر حليفه كيري، فالاول يتحدث عن عملية سياسية ينسى انها انهارت في جنيف، والثاني يهدد بالعودة الى الحرب اذا لم يلتزم الرئيس الاسد باتفاق وقف اطلاق النار، وكأن السلام والاستقرار يعم ارجاء سورية، ولا تعيش حربا ومواجهات دموية منذ خمس سنوات.

مدينة حلب تحترق فعلا، بشقيها الغربي، الواقع تحت سيطرة النظام، والشرقي الذي تتمترس فيه المعارضة المسلحة بمختلف فصائلها “المعتدلة” و”المتشددة” معا، والقصف بالبراميل من الجو (النظام)، او بالصواريخ من الارض (المعارضة) كرد انتقامي، تهطل كالمطر على رؤوس المدنيين، او من بقي منهم، ولم يهاجر الى مناطق آمنة.

***

التفاهمات الروسية الامريكية التي ادت الى اتفاق لوقف اطلاق النار في شباط (فبراير) الماضي باتت تتفكك وتتسع شروخها، بعد مقتل المئات من المدنيين، وباتت الادارة الامريكية، وتحت ضغط حلفائها في السعودية وقطر وتركيا تريد التملص منها، وخاصة الشق المتعلق باستثناء “جبهة النصرة”، و”الدولة الاسلامية” من هذا الاتفاق، الامر الذي فسرته السلطات السورية، وحليفها الروسي بأنه ضوء اخضر للمضي قدما في الهجوم لاجتثاث التنظيمين المصنفين على قائمتي الارهاب الروسية والامريكية معا، وهذا ما يفسر اشتداد حدة المواجهات في الايام العشرة الماضية.

تهديد كيري الذي قال فيه ان البديل لعدم الالتزام بوقف اطلاق النار هو التدمير الكامل، ومن ثم العودة الى الحرب، ولكن كيف يتم الالتزام بهذا الاتفاق، والتنظيمان المذكوران في حل منه؟ وهذا ما يفسر تشكيل “جبهة النصرة” مع “احرار الشام” و”جيش الاسلام” تحالفا جديداعلى غرار تحالف “جيش الفتح” تحت اسم “تحالف فتح حلب”، على غرار “جيش الفتح” الذي تمكن من الاستيلاء على مدينتي ادلب وجسر الشغور، مما ادى الى التدخل العسكري الروسي المباشر، وبدأ ليلة امس هجوما كاسحا بالصواريخ على حلب الغربية وقوات الجيش النظامي الذي يتمترس فيها.

وقف اطلاق النار لا يمكن ان يتحقق في حلب الا اذا كانت “جبهة النصرة” و”الدولة الاسلامية” جزءا منه، فهما يخوضان مواجهات  بين بعضهما البعض اولا، ويشنان هجمات ضد النظام وقواته التي تقصفها من الجو، وادخالهما في الاتفاق يعني انهيار التفاهمات والعودة الى المربع الاول للازمة.

التصريح الذي ادلى به سيرغي لافروف، وزير الخارجية الروسي اليوم، وقال فيه ان بلاده رفضت طلبا امريكيا بادخال “جبهة النصرة” في اطار اتفاق وقف اطلاق النار، ينطوي على نقطة تحول في الصراع، ومن هنا تكمن اهميته، فضم “النصرة” الى هذا الاتفاق، بطلب امريكي، يعني اسقاط صفة “الارهاب” عنها، وحصرها فقط في غريمتها “الدولة الاسلامية”، واعتبارها، اي “النصرة” في مصاف الفصائل المعتدلة، وهذا ما كانت تطالب به منذ اشهر المملكة العربية السعودية وقطر وتركيا.

تهديدات كيري، ومن قبله الجبير تمثل ضغطا على الطرفين الروسي والسوري، لرفع الحصار عن حلب وريفها الشمالي ووقف تقدم القوات السورية، للسيطرة على الحدود ومعابرها مع تركيا، وبما يؤدي الى اغلاقها الكامل لمنع وصول الامدادات عبرها الى المعارضة المسلحة، والتهديد يعني تزويد المعارضة “المعتدلة” بأسلحة نوعية حديثة من ضمنها صواريخ مضادة للطيران، ويبدو ان الطرف الروسي بات ينظر الى هذا الاحتمال بجدية، ويستعد لمواجهته، وهذا ما يفسر القرار الروسي الذي جرى اتخاذه امس بسحب 30 طائرة من طراز “سوخوي 25″ القديمة والاقل تطورا، ويمكن اسقاطها بسهولة بصواريخ “مان باد” الامريكية التي تطالب المعارضة بالحصول عليها، (المقاتلات التركية اسقطت احداها قبل بضعة اشهر).

لا نعتقد ان الادارة الامريكية تريد اللجوء الى هذا الخيار الذي قد يعني صداما مباشرا مع الروس، وتوسيع دائرة الصراع في المنطقة، لانها تدرك جيدا ان الرد الروسي سيكون نوعيا، وعلى القدر نفسه، او اكبر، مثل تزويد الجيش السوري بصواريخ “اس 300″ قادرة على اسقاط طائرات امريكية، او تسليح الحوثيين وحليفهم صالح بصواريخ قادرة على اسقاط طائرات “عاصفة الحزم”، وربما اخرى حديثة، وبرؤوس تفجيرية بقدرة تدميرية عالية، بعيدة المدى قادرة على ضرب العمق السعودي، فهذه الاحتمالات واردة.

دعوة وزير الخارجية الفرنسي جان مارك ايرولت لعقد اجتماع يوم الاثنين المقبل في باريس بحضور وزراء خارجية تركيا والسعودية وقطر والامارات، ربما جاءت بايعاز امريكي لامتصاص الغضبة الناجمة عن ارتفاع اعداد الضحايا في حلب، وعملية التفاف على طلب المعارضة السورية عقد اجتماع لمجموعة “اصدقاء سورية” التي “انقرضت” برئاسة الولايات المتحدة.

***

كل هذه التحركات الهدف منها التغطية على التفاهمات الروسية الامريكية “بتقسيط” الحرب، والتحكم في مفتاح تصعيدها وتهدئتها، لتحقيق الهدف النهائي، وهو القضاء على الجماعات “الجهادية الارهابية” وفق التصنيفات المعتمدة، وبعد ذلك يمكن التوصل الى “الحل السياسي” الذي يتمثل في حكومة سورية موسعة تضم وزراء من النظام والمعارضة المعتدلة والمستقلة، بصلاحيات محدودة ليس من ضمنها ملفي الجيش والامن كمرحلة اولى، ثم بعد ذلك استصدار دستور جديد يقلص صلاحيات الرئيس المنصوص عليها في الدستور الحالي، وتتضمن 23 مادة، تمتد من القضاء، وتنتهي بالامن والجيش، ولكن دون المس بالمواد السيادية.

السيد الجبير سيستمر في التهديد باطاحة الرئيس السوري سلما او حربا، وكيري “سيجامله” بالحديث عن “عواقب وخيمة” اذا لم يلتزم هذا الرئيس (السوري) بوقف اطلاق النار، وسيضيف اليهما (اي الجبير وكيري) احمد داوود اوغلو رئيس وزراء تركيا، تهديد ثالث، باستعداده لارسال قوات برية، تماما مثلما كان عليه الحال طوال السنوات الخمس الماضية.

دار ابي سفيان السورية “ستظل على حالها، ولكن “من دخلها لن يكون آمنا”، وستهدأ المعارك قليلا، ولكنها ستعود للاشتعال حتى تصل اللعبة الى نهايتها، ويتم اطلاق صافرة النهاية، ويبدو انها ستطول.