حين تصيرُ الأساطيرُ رُخصةً للإبادة.. أظلمُ عصور البشرية

إب نيوز 11 أغسطس

فهد شاكر أبوراس

تتجلّى الوقاحةُ الصهيونية في تناقض صارخ يمزق حجاب الوهم؛ فالخطاب الإسرائيلي يرفع شعاراتٍ إنسانية زائفة، بينما تغرقُ آلة الحرب الصهيونية غزة في بحر من الدمار والموت. وفي الوقت ذاته، يعلن نتنياهو – بكل وقاحة – هدفًا مزعومًا يتمثل في “إنشاء ممرات آمنة وإدارة مدنية”، ناهيك عن محاولات قواته السيطرة على القطاع بقوة السلاح، وهدم 70 % من وحداته السكنية، ودفع مليونَي إنسان إلى حافة الموت، تجويعًا وتعطيشًا بمتوسط 3–5 لترات ماء يوميًّا؛ أي أقل من ثلث الحد الأدنى للبقاء.

هذه ليست مفارقة عابرة، بل هي جوهر أيديولوجية استعمارية استيطانية تتغذى على الدم الفلسطيني وجودًا وتاريخًا وحقًا. وجذور هذه الوقاحة تمتد عميقًا في تربة المشروع الصهيوني منذ “وعد بلفور” سنة 1917م، الذي منح اليهود حقًّا في وطن قومي على أرض عربية، متجاهلًا إرادَة شعبها الأصلي وحقوقه السياسية. وحتى وزير الخارجية البريطاني آنذاك اعترف لاحقًا بأن وعد بلفور احتوى “ظلمًا تاريخيًا”؛ إذ إن التزامه بعدم الإضرار بالحقوق المدنية للفلسطينيين “لم يُحترم أبدًا”.

بل إن الصهيونية حولت ذلك الظلم إلى نظام مؤسّسي، مستندة إلى خرائط توراتية مختلقة مثل “سفر يشوع”، الذي يمنح – حسب تفسيرهم – اليهود رخصة إلهية لإبادة السكان الأصليين. وهذه العقيدة التوراتية المحرفة غذّت العقلية الصهيونية بالعنصرية، حتى جعلت اليهودي يرى في الفلسطيني “عدوًا”، ويتصور أرضه “بلا شعب”، لتبرير تهجير 957 ألف فلسطيني سنة 1948م، ومصادرة مقدساتهم كما في اقتحام الأقصى بـ393 مستوطنًا في يوم واحد تحت حراب الجيش.

إن وقاحة هذا المشروع لم تكن لتبلغ هذا المدى لولا حاضنة الإفلات من العقاب الدولية. فقد استطاعت (إسرائيل) أن تتحول من كيان عنصري غاصب إلى “دولة فوق القانون” عبر توظيف نفوذها في أروقة القوى العظمى، مستخدمة الذراع الطولى للوبي الصهيوني في أمريكا، الذي يمول 60 % من حملات الرئاسة الأمريكية، ويسيطر على شبكات إعلامية كبرى. هذا التفوق السياسي المزروع أنتج ثقافة حصانة مطلقة للاحتلال، تجلت في استخدام الولايات المتحدة لحق النقض “الفيتو” ضد 900 قرار أممي يدين انتهاكات (إسرائيل)، بينما تُوظف تهمة “معادَاة السامية” كفزاعة لقمع أي صوت يجرؤ على فضح جرائمها.

وبحسب تعريف “التحالف الدولي لإحياء ذكرى الهولوكوست” (IHRA)، فإن مُجَـرّد القول إن (إسرائيل) ترتكب “إبادة جماعية”، أَو مقارنة سياستها بالنازية، يعد جريمة تستوجب العقاب! وفي ظل هذه الذريعة تُمنع منظمات حقوقية من تقديم أدلة الإبادة إلى محكمة الجنايات الدولية.

في حرب غزة الأخيرة، بلغت الوقاحة الصهيونية ذروتها السوداء؛ فبينما تروج آلة الدعاية الإسرائيلية لـ”ممرات آمنة” و”مساعدات إنسانية”، يقطع رئيس وزرائها – مجرم الحرب نتنياهو – الطعام والماء والدواء عن مليوني إنسان، ويدمّـر 68،900 مبنى و500 مدرسة وجامعة، ويرتكب إبادة منهجية بحق 63 ألفً مدني، بينهم 18 ألف طفل، ويُبيد 2،483 عائلة فلسطينية بالكامل من سجلات الوجود.

إن مواجهة هذه الوقاحة تتطلب استراتيجية ثلاثية الأبعاد:

تفكيك السردية التوراتية المزيفة، وكشف تناقضها مع العلمانية التي تزعم الانتماء إليها، خَاصَّة لدى الأجيال الغربية الشابة التي تزداد وعيًا بجرائم التطهير العرقي الصهيونية.

توثيق الجرائم عبر أطر قانونية دولية ملزمة، مستندين إلى اتّفاقية منع الإبادة (1948)، التي تتحقّق أركانها كافة في قطاع غزة: القتل الجماعي، التهجير، التجويع المتعمد، ومنع الإغاثة.

إن هذه الوقاحة، في حقيقتها، تحفر قبر المشروع الصهيوني؛ فالتوازن الديموغرافي ينقلب لصالح الفلسطينيين (7.4 مليون مقابل 7.4 مليون يهودي في فلسطين التاريخية)، وصمود غزة يفضح زيف مقولة “الدولة الديمقراطية الوحيدة”. والأهم أن الأجيال اليهودية الشابة في الغرب بدأت ترفع الصوت ضد الوهم الصهيوني، كما في اعتصامات جامعات هارفارد وكولومبيا وكاليفورنيا التي هزت عروش “اللوبي”.

إنها لحظة التاريخ التي يتحول فيها الظلم إلى مقاومة، والوقاحة إلى سقوط.

You might also like