أُورُوبا بين إدانة جرائم (إسرائيل) وتغذية آلة حربها.. استراتيجية مقصورة تخدم مصالح الطرفين
إب نيوز 8 أكتوبر
فهد شاكر أبوراس
في الوقت الذي تتصدر فيه بيانات الإدانة الأُورُوبية لجرائم الاحتلال الصهيوني في قطاع غزة واجهات الإعلام، تواصل مصانع أُورُوبا إنتاج وترويج المكونات العسكرية التي تغذي آلة الحرب الإسرائيلية، في تناقض صارخ بين الخطاب السياسي والممارسة الفعلية.
ولم يعد هذا التناقض مُجَـرّد ازدواجية في المواقف، بل تحول إلى استراتيجية مقصورة تخدم مصالح الطرفين على حساب الدم الفلسطيني.
فالخطاب الدبلوماسي الأُورُوبي، مهما بدت حدته في بعض الأحيان، يظل حبيسَ الإطار البروتوكولي الذي لا يُترجَمُ إلى قرارات ملزمة، بينما تتحوَّلُ العقودُ العسكرية إلى واقعٍ ملموسٍ يمتدُّ أثرُه ويُفاقم ضرره.
هذا الفصام بين القول والفعل لم يعد خافيًا على أحد، بل أصبح موضع تساؤل حتى داخل الأوساط السياسية والأكاديمية الأُورُوبية ذاتها.
تتعامل أُورُوبا، ومن خلفها الاتّحاد الأُورُوبي، مع المأساة الإنسانية في غزة من منظور مصلحي ضيق؛ فهي من جهة تسعى للحفاظ على صورتها كمدافعة عن حقوق الإنسان والقانون الدولي، ومن جهة أُخرى لا تريد التفريط في مصالحها الاقتصادية والاستراتيجية مع كيان الاحتلال.
وتتجلى هذه المعادلة المعقدة في سلسلة من القرارات المتناقضة: ففي الوقت الذي تشجب فيه العواصم الأُورُوبية الانتهاكات الصهيونية وجرائم الإبادة، تواصل شركاتها تصدير الأسلحة والمعدات العسكرية للاحتلال، وإن أعلنت عن تجميد بعض الصفقات، إلا أنها استثنت العقودَ السابقةَ من هذا التجميد.
واللافت أن (إسرائيل) تدرك هذا التناقض جيِّدًا، وتتعامل معه ببراغماتية واضحة؛ إذ تستقبل بيانات الشجب الأُورُوبية كجزء من اللعبة السياسية، بينما تضمن في الوقت نفسه استمرار تدفق السلاح عبر العقود طويلة الأمد والاتّفاقيات الاستراتيجية.
وعلى المستوى العملي، أصبحت الصناعات العسكرية الأُورُوبية شريكًا أَسَاسيًّا في تطوير القدرات العسكرية الإسرائيلية، فالكثير من الأسلحة التي تفتك بأهل غزة تحمل بصمات التكنولوجيا الأُورُوبية، سواء في أنظمة التوجيه أَو وسائل الاتصال أَو الرصد.
ولم يعد التعاون العسكري مقتصرًا على بيع الأسلحة الجاهزة، بل امتد إلى نقل التكنولوجيا والمشاركة في الأبحاث المشتركة؛ إذ تشارك شركات أُورُوبية كبرى في تطوير منظومات الدفاع الصاروخي الإسرائيلية، وتورد مكونات حساسة لأنظمة القيادة والسيطرة.
أما الدبلوماسية الأُورُوبية فتتبنّى أُسلُـوبًا تدرجيًّا في التعامل مع المأساة الإنسانية في غزة، يبدأ ببيانات خفيفة اللهجة، ثم يتصاعد تدريجيًّا حتى يبلغ في بعض الأحيان تهديدات بعقوبات لا تُنفذ في الغالب.
هذا الأُسلُـوب يخدم سياسة «الترميز المزدوج» بدقة؛ فمن ناحية يمنح انطباعًا بأن أُورُوبا “تفعل شيئًا” حيال ما يجري، ومن ناحية أُخرى لا يمسّ المصالح الجوهرية في العلاقة مع كيان الإبادة والاستباحة.
الخطر الحقيقي في هذه المعادلة أنها تُكرس حالة من التطبيع مع المأساة، فاستمرار تدفق السلاح الأُورُوبي، مقرونًا بغياب ردٍّ دولي حاسم، يوجّه رسالة خطيرة مفادها أن الانتهاكات يمكن أن تستمر دون عواقب تُذكر.
وهو ما يضع المجتمع الدولي -والأُورُوبي خَاصَّة- أمام مسؤوليات قانونية وأخلاقية جسيمة.
فالقانون الدولي الإنساني يضع شروطًا واضحة لتصدير الأسلحة، تمنع نقلها عندما تكون هناك مؤشرات قوية على استخدامها في انتهاكات جسيمة.
وعليه، فَــإنَّ البيانات الدبلوماسية، مهما كانت مؤثرة إعلاميًّا، لا تُعفي الدول من مسؤولياتها القانونية، فالاتّفاقيات الدولية -وفي مقدمتها معاهدة تجارة الأسلحة- تُلزم الدول بمراقبة استخدام السلاح والامتناع عن الترخيص به عندما تكون هناك مخاطر جدية لاستخدامه في انتهاكات.
لقد كشفت مأساة غزة أن النظام الأُورُوبي لمراقبة تصدير الأسلحة يعاني من ثغرات خطيرة، وأن كَثيرًا من الدول الأُورُوبية تلجأ إلى ذرائع واهية لتبرير استمرار صادراتها، كوجود عقود سابقة أَو غياب التيقن من الاستخدام النهائي للسلاح، أَو الادِّعاء بوجود ضمانات بعدم استخدامه في غزة.
غير أن هذه المبرّرات تتهاوى أمام الوقائع الميدانية؛ إذ تؤكّـد التقارير الدولية أن الأسلحة الأُورُوبية تُستخدم بشكل ممنهج في العمليات العسكرية ضد القطاع، وقد وثّقت منظمات حقوقية عديدة أمثلة على استخدامها في هجمات أودت بحياة آلاف المدنيين.
وتتجاوز المعضلة هنا الجانب القانوني إلى بعدٍ أخلاقي وتاريخي أعمق؛ فالدول الأُورُوبية التي ذاقت ويلات الحروب العالمية ومآسي الإبادة الجماعية، كان يفترض أن تكون الأحرص على منع تكرار مثل هذه الجرائم.
لكن الواقع يشير إلى أن دروس التاريخ تتراجع أحيانًا أمام حسابات المصلحة والسياسة، وهو ما يفسر استمرار بعض الدول الأُورُوبية في التعاون العسكري مع (إسرائيل) رغم كُـلّ المؤشرات على تورطها في جرائم حرب بغزة.
وعليه، فَــإنَّ التناقض الأُورُوبي بين الخطاب السياسي والممارسة الفعلية لم يعد مقبولًا ولا قابلًا للتبرير، لأنه لا يضر فقط بالشعب الفلسطيني، بل يطعن أَيْـضًا في مصداقية أُورُوبا ومكانتها الأخلاقية على المدى الطويل.
الكرة اليوم في ملعب الحكومات الأُورُوبية، وعليها أن تحسم خيارها سريعًا: إمّا الانحياز للقانون والإنسانية، أَو المضي في سياسة الازدواجية التي أثبتت فشلها في تحقيق أي تقدم نحو سلام عادل.