اعتراف الأمير محمد بن سلمان، ولي العهد السعودي بتحمله المسؤولية عن مقتل الصحافي السعودي جمال خاشقجي في قنصلية بلاده في إسطنبول قبل عام في اطار فيلم وثائقي سيبث الاثنين المقبل، خطوة جريئة بلا شك للوهلة الأولى، ولكن بعد الدراسة الدقيقة للنص المنشور يكتشف المرء ان الحقيقة مغايرة لذلك تماما، وان هذا الاعتراف على اهميته، يعكس محاولة أخرى للنأي بالنفس عن الخطوة الأهم وهي اصدار الأوامر بالقتل، حيث تشير تقارير استخبارية أمريكية اطلعت على مكالمات واشرطة جرى تسجيلها داخل القنصلية السعودية انه هو الذي اصدر الأوامر شخصيا.

الأمير بن سلمان ينفي انه من اصدر قرار القتل، ويؤكد ان لا دور له في الجريمة، وعندما سئل كيف ان جميع المسؤولين وعلى رأسهم نائب رئيس المخابرات السعودي اللواء احمد عسيري، والمستشار سعود القحطاني يعتبرون من ابرز المقربين منه ويعملون في مكتبه، وغادر المنفذون الى اسطنبول بطائرة حكومية خاصة، قال ان هناك ثلاثة ملايين موظف سعودي، وهؤلاء يتخذون القرارات بأنفسهم، أي انه لا يعرف كل شيء.

النائب السعودي العام قال اثناء جلسة محاكمة سرية للمتهمين الـ11 الذين شاركوا في عملية الاغتيال ان اللواء عسيري هو من امر بقتل خاشقجي في حال فشل المحاولات لعودته الى المملكة، ولكن هذه الرواية جرى النظر اليها على انها محاولة لإبعاد المسؤولية عن ولي العهد السعودي.

مارتين سميث، معد هذا الشريط الوثائقي لقناة “بي بي اس” الامريكية العامة، حرص على التأكيد بأن اعتراف الأمير بن سلمان بالمسؤولية عن مقتل خاشقجي جاء من منطلق كونه الحاكم الفعلي للمملكة، لان الجريمة حدثت في عهده وفي ظل وجوده في كرسي القيادة.

وحتى لو افترضنا جدلا بأن اعترافه بالمسؤولية للأسباب المذكورة آنفا، أي وجوده في السلطة ساعة التنفيذ، فان هذا الاعتراف لا يعفيه أيضا من اتباع اكبر قدر من الشفافية، والسماح لمحققين دوليين باللقاء بالمتهمين بالتنفيذ، واخذ شهاداتهم كاملة، وفي ظروف توفر الحماية لهم من أي عقاب.

لا نعتقد ان هذه المحاولة بالنأي بالنفس، بالطريقة التي قُدمت بها، في هذا الشريط الوثائقي، ستوقف طرح العديد من الاسئلة وابرزها كيفية تنفيذ عملية القتل، وما جرى للجثة، ومن الذي اصدر القرار بالتنفيذ، وهل ستكون هناك محاكمة علنية، وتنفيذ للأحكام، وخاصة بالإعدام في حق المدانين؟

التسريبات الأخيرة عن عملية القتل داخل القنصلية حول مضمون اشرطة التسجيل الموجودة لدى الحكومة التركية والأمريكية أيضا، ونشرتها صحيفة “الصباح” المقربة من الحكومة قبل اسبوع، اكدت ان الخاشقجي كان يصرخ من جراء خنقه، وقطع أنفاسه، وان الطبيب الشرعي السعودي الذي قام بعملية التقطيع للجثة بالمنشار الكهربائي اكد انها المرة الأولى التي يقدم فيها على تقطيع جثة ساخنة.

روايات تركية أخرى مسربة قالت ان أجزاء الجثة المقطعة جرى نقلها الى منزل القنصل السعودي حيث تم حرقها في فرن بدرجة حرارة عالية جدا تصهر الحديد جرى اعداده خصيصا لهذه العملية لإزالة كل اثار الجريمة.

تجاربنا السابقة مع الأشرطة الوثائقية تفيد بأن التسريبات لا تعكس الا جزءا من الحقيقة والمضمون، وبهدف اثارة الاهتمام بالمشاهدة على أوسع نطاق ممكن، خاصة ان معد الفيلم قدم تقريرا افتتاحيا مفصلا كمقدمة حول لقائه مع الأمير بن سلمان، وما دار فيه من احاديث بعيدا عن أجهزة التصوير ربما تكون اهم بكثير مما هو مسجل في الشريط.

جريمة اغتيال خاشقجي ستظل “كابوسا” يطارد الأمير محمد بن سلمان حتى تظهر الحقائق كاملة، وتضارب الروايات الرسمية السعودية في البداية، ومن ثم الكشف في مراحلها الأخيرة عن اعترافات خطيرة، الى جانب فريق التنفيذ على مراحل استجابة للضغوط الدولية، ولا نستبعد ان يستغل الرئيس التركي الذكرى السنوية الأولى للجريمة للكشف عن اسرار جديدة لإحراج ولي العهد السعودي وحكومته، بالنظر الى التوتر في العلاقات بين الجانبين.

الخطر الأكبر الذي من المحتمل ان يواجهه الأمير محمد بن سلمان يتمثل في نجاح التحقيقات التي يجريها الكونغرس مع الرئيس ترامب حاليا تمهيدا لعزله، او خسارته الانتخابات الرئاسية المقبلة، حيث سيجد نفسه وجها لوجه امام كونغرس امريكي بمجلسيه يريد ان يعرف الحقيقة كاملة في قضية اغتيال خاشقجي، وتقديم جميع المتورطين للمحاكمة ربما خارج المملكة.

“راي اليوم”