عبدالباري عطوان : قصتي “الشخصية” مع الرئيس جمال عبد الناصر اكتبها بمناسبة مرور 70 عاما على ثورة تموز العظيمة

 

إب نيوز ٢٤ يوليو

عبد الباري عطوان

ثورة 23 تموز (يوليو) قدمت الكثير جدا لنا كعرب وكمسلمين، والفقراء المعدمين منا خاصة، وانا مدين لها شخصيا بكل ما حققته من تعليم، ومهنية، فلولاها ما كنت قد وصلت الى ما وصلت اليه، وآيا كان حجمه، فقد كانت ثورة إنسانية حداثية، وعالمية، ولم تكن ابدا مصرية فحسب.
اذكر انني عندما كنت احضّر لرسالة الماجستير في جامعة لندن، التقيت المستشرق الدكتور فاتيكيوتس الذي كان أحد كوادر التدريس في كلية الدراسات الشرقية، فقلت له انك قسوت كثيرا على ثورة “يوليو” والزعيم جمال عبد الناصر في كتابك الموسوعي عن مصر احد اهم المراجع العربية والإنكليزية، فاعترف لي، وهو الذي كان ينتقد دائما اندفاعي في الدفاع عن عبد الناصر في وجه خصومه “المستعربين، (من الغرب)، اعترف لي ان عملا عظيما، وهو “الإصلاح الزراعي يغفر لجمال عبد الناصر كل اخطائه، ويكفيه، ويكفي مصر، انه قضى على الاقطاع وانتصر للفلاح المصري، وأنصفه بعد قرون من العبودية والاضطهاد.
***
كانت أُمنيتي ان أُقابل الرئيس عبد الناصر، وكل ما استطعت ان أحققه انني رأيته عن بعد عندما القى خطابا في الإسكندرية بمناسبة ذكرى ثورة تموز، فعندما كنت طفلا في السنة الثانية ابتدائية، قطعت ورقة من كراستي اليتيمة، وكتبت فيها “اربع” كلمات “جمال عبد الناصر انا احبك”، ووضعتها في مغلف بني، وكتب العنوان “جمال عبد الناصر ـ القاهرة”، واستجديت والدي ان يعطيني نصف قرش (تعريفة) لشراء الطابع، ووضعت الرسالة في صندوق البريد.
بعد أسابيع جاء الناظر بخيزرانته الطويلة مع عدد من المدرسين الى فصلي باحثا عني، وكنت نحيفا هزيلا اعاني من فقر دم مزمن نتيجة للفقر والجوع والحرمان، فكدت ان انهار من الخوف، فالناظر كانت لغته في المخاطبة دائما “الخيرزانة” سواء كنت مصيبا او مخطئا، وكنت زبونا دائما في تحياته ومدرسيه لمشاغباتي او لتأخري عن المدرسة، وقادني ووفد “العصي” من المدرسين الى غرفته، وهناك ابرز مظروفا بنيا “ضخما” مفتوحا، وسألني منذ متى تعرف جمال عبد الناصر؟ انكرت وانا ارتجف اني اعرفه، ومن انا هذا الطفل الحافي في مدرسة لمخيم دير البلح للاجئين حتى اعرفه؟ ولكنه أي الناظر ربت على ظهري بيده، وليس بالعصا، وقال انه فخور بي، واعطاني الظرف، وكان يتضمن صورة للرئيس عبد الناصر، وخطاب منه يشكرني، وبضعة كتب مثل الميثاق وفلسفة الثورة على ما اذكر، واعتقد ان اهلي في مخيم رفح ما زالوا يحتفظون بالرسالة والكتب، او هذا ما أتمنى.
أحببت عبد الناصر لأنه وقف مع كل الثورات العربية وشعوبها المُستعمرة، وفتح مصر وجامعاتها ومستشفياتها وقلوب أبنائها الطيبين لاحتضان العرب والفارقة والآسيويين، ووضع مصر في مصاف الدول العظمى في حينها، مثل يوغسلافيا والهند وروسيا والصين في الخندق المواجه للاستعمار العربي، وخاضت مصر في عهده ثلاث حروب في مواجهة العدوان الإسرائيلي الغربي، حرب السويس، حرب عام 1967، وحرب الاستنزاف، وكان الفضل في انتصار حرب أكتوبر 1973 يعود اليه وتجهيزه للجيش المصري لخوضها للثأر من هزيمة “حزيران”.
ربما يختلف معي كثيرون في هذا الرأي، لأسباب عقائدية او ثأرية، وهذا من حقهم، ولكن هذا الاختلاف لا يمكن ان يقلل من العديد من الحقائق والإنجازات والثوابت عن هذا الرجل العظيم، وابرزها انه مات فقيرا ولم يترك قصورا ولا يختا عملاقا، ولا ارصدة سرية طافحة بالملايين، او المليارات، ولا حتى منزلا لعائلته، وكان عربيا مسلما عابرا للتعصب الطائفي او الديني، وجعل مصر منارة للحداثة والعزة، والاستقرار، وعنوانا للكرامة، وقبلة لكل الثوار الشرفاء في جميع انحاء العالم.
دعاني معهد العالم العربي في باريس، عندما كان موضوعيا ويرحب بكل الآراء وليس أسير المال، للمشاركة في ندوة بمناسبة مرور 25 عاما على وفاة الرئيس عبد الناصر، وكان من بين المتحدثين وزيرا خارجية وداخلية فرنسا، ووزير واحد من مصر، وكنت أصغر المتحدثين سنا ومكانة، وقالوا في كلماتهم الكثير من الأطناب عن الراحل وانجازاته، ولم يتركوا لي شيئا أقوله وكنت آخر المتحدثين، فقلت في كلمة موجزة، لولا جمال عبد الناصر لما كنت هنا، انا اللاجئ ابن المخيم، اقف بينكم.
مصر اليوم تواجه “موسوعة” من الازمات، لأنها على مدى 52 عاما بعد وفاته انحرفت عن هويتها ودورها القيادي الرائد، ووقعت اتفاقات “كامب ديفيد” اعتقادا من خليفته أنور السادات ان هذا السلام مع العدو سيحولها الى جنات عدن، فجاءت النتائج عكسية تماما، وكان وما زال هذا حال جميع الحكومات العربية التي سارت على النهج نفسه، قديمة التطبيع او جديدة.
***
رغم حروب الرئيس عبد الناصر ودعمه للثورات العربية، كان الاقتصاد المصري قويا، والدين المصري الخارجي شبه معدوم، ويتعلق بصفقات الأسلحة فقط، ولم تتسول مصر دولارا واحدا من اشقائها، وصانت كرامة المصري في جميع انحاء العالم، عشت في مصر عاما واحدا في عهد عبد الناصر (1970)، وكنت هناك من بين المشيعين الباكين له، واشهد ان مصر كانت أبيه غنية، تأكل وتلبس مما تنتج، وتصنع كل شيء من السيارة حتى معجون الاسنان، والجمعيات التعاونية كانت طافحة بالسلع الرخيصة المدعومة من الدولة، وبعد اقل من عام تغير كل شيء، وبدأت عمليات التجويع المدروسة للشعب المصري لتأييسه وتكريهه بالعرب، ودفعه نحو التطبيع واتفاقات كامب ديفيد.
خروج مصر من كل ازماتها لا يتم بالقروض الخارجية، عربية او من صندوق النقد الدولي، وانما بإستعادة دورها الريادي، والاعتماد على شعبها الخلاق المبدع، ومكافحة الفساد بكل اشكاله، والخروج من اتفاقات كامب ديفيد والحلف الأمريكي، وإعادة تحالفها القوي مع الزعامة الروسية الصينية الصاعدة للعالم، وإدارة الظهر للحلف الأمريكي الغربي المهزوم في أوكرانيا، ولعل تنبؤات كيسنجر وبلير في هذا الشأن خير دليل.
لو عاد التاريخ الى الوراء، لكتبت الرسالة نفسها الى الرئيس جمال عبد الناصر، واضفت اليها كلمة واحدة “الرئيس جمال عبد الناصر انا احبك اكثر

You might also like