اليمن واستراتيجية الحرب الشاملة

إب نيوز ٢٤ مايو

فهد شاكر أبوراس

من قلب العاصفة التي تجتاح الشرق الأوسط، يقدم اليمن نموذجاً استراتيجياً فريداً يدمج الحرب الإقتصادية، والدبلوماسية، والسياسية، والعسكرية، إلى حزمة واحدة لا تنفصم، وحول حظره الجوي على مطار “اللد” المسمى إسرائيلياً “بن غوريون” وباقي مطارات في عمق الكيان إلى سلاح شامل أعاد تعريف الصراع مع الكيان ليس فقط كمواجهة بين جيشين، بل كحرب وجودية هاجم فيها اليمن أركان قوة الكيان الأربعة: الإقتصاد وهو عماد الهيمنة، والدبلوماسية أداة شرعنة الكيان، والسياسية مسرح تأثيره الخارجي، والعسكرية رمز قوته المزعومة.

لم يعد الحظر اليمني مجرد إغلاق لمدرجات الطيران، بل تحول إلى عمليات معقدة تشنها صنعاء رغم حصارها، لفرض تكاليف باهظة على تل أبيب، وإجبارها على خوض معارك متعددة الجبهات:

إقتصادياً: انهيار 97% من حركة مطار “اللد” وهذا وحده يهدد قطاعات السياحة والتجارة للكيان الصهيوني، المعتمدة على التدفق اليومي لأكثر من 21.1 مليون مسافر إلى الكيان سنوياً من كل بلدان العالم، ناهيك عن تحول قرارات شركات الطيران الكبرى مثل “طيران كندا” و”لوفتهانزا” إلى إضراب اقتصادي عالمي غير معلن يعمق عزلة هذا الكيان ويسرع نزيف احتياطياته النقدية.

عسكرياً: لم تكن العمليات العسكرية اليمنية التي أجبرت مطار “اللد” وغيره من مطارات الكيان، على الإغلاق مجرد استعراض للقوة بل كانت ولا تزال رسالة مفادها أن “القبة الحديدية” وهي الرمز الأبرز للتفوق التكنولوجي الصهيوني لم تعد سوى وهم أنهار أمام صواريخ مصنوعة في ظروف الحصار، وهذا يعيد تشكيل مفهوم الردع في المنطقة، حيث أصبحت القدرة على اختراق المنظومات الدفاعية بوسائل بسيطة، إستراتيجية جديدة تقلق الكيان وحلفائه الغربيين، والذين يخشون من انتقال هذا النموذج إلى ساحات أخرى.

سياسياً: لقد حول اليمن الحظر الجوي إلى منصة لتعزيز شرعيته الدولية، عبر كشف التناقض الغربي بين إدانة “العنف” ودعم اقتصاد قائم على الإحتلال، حيث أصبحت الشركات الأجنبية عبر انسحابها من المطار طرفاً غير مباشر في إستراتيجية الردع اليمنية، مما يضعف الرواية الصهيونية عن “الضحية المحاصرة”، ويظهر اليمن كفاعل عاقل يستخدم أدوات العولمة لتحقيق أهداف سياسية.

دبلوماسياً: سوف يعيد حظر اليمن الجوي على الكيان الصهيوني تشكيل التحالفات الإقليمية مع مرور الوقت؛ واستهداف مطار “اللد” وإيقافه تماماً سيحول اليمن إلى قطب جاذب لدول تبحث عن دور في معادلة الصراع، خاصة مع عجز الأنظمة العربية التقليدية عن مواجهة غطرسة الكيان الصهيوني، بينما يقدم اليمن نفسه حاميا لقضايا الأمة، عبر توظيف الأزمة لبناء تحالفات اقتصادية مع قوى صاعدة في آسيا وأفريقيا يراكم من خلالها نفوذاً دبلوماسياً يعوض غيابه عن المنصات الدولية.

الأهداف اليمنية هنا مركبة ومتداخلة،

اقتصادياً: شل دولة الكيان وتحويلها من “دولة شرق أوسطية مزدهرة” إلى “دولة محاطة بمخاطر لوجستية”، سياسياً: إجبار المجتمع الدولي على إعادة حساباته عبر ربط دعم كيان الإحتلال بانهيار مصالح كل الشركات الغربية، عسكرياً: إثبات أن المواجهة ليست حكراً على الجيوش المدججة بالسلاح والعتاد، بل من المكن خوضها بوسائل غير تقليدية لتحقيق التفوق الإستراتيجي، دبلوماسياً: تحويل قضية غزة إلى قضية عالمية عبر ربط مصير بقاء الكيان الصهيوني بوقف العدوان على غزة.

إن الغاية النهائية للإستراتيجية اليمنية الشاملة تفكيك “عقدة الكيان الصهيوني” في المنطقة، وتحويله إلى عبءٍ على حلفائه، واختبار قدرة مشروعه الصهيوني على الصمود أمام حرب متعددة الأبعاد، بعد أن ينهار اقتصاده تحت وطأة العزلة، وتترنح دبلوماسيته مع انكشاف زيف ضماناته الأمنية، وتتصدع سياسته الداخلية تحت ضغط هروب مستوطنيه الجماعي إلى الملاجئ عقب كل عملية استهداف يمنية لعمقه الإستراتيجي، وبينما يبرز اليمن من تحت الأنقاض والركام كقوة إقليمية صاعدة في المنطقة تصنع التاريخ بخطى ثابتة، ويقدم درس مهما لكل العالم مفاده ” أن الحروب في القرن الحادي والعشرين لم تعد تحسم فقط بالدبابات والترسانات العسكرية، بل بالإقتصاد ائضاً وهو الذي يفلس الخصم، وبالدبلوماسية التي تعيد تشكيل التحالفات، وبالسياسية التي تعيد كتابة السرديات، وبالعسكرية التي تحقق المستحيل بصواريخ أذكى من كل تقنيات القوة الغاشمة.

You might also like