مؤتمر حل الدولتين: صفقة استسلام واعترافات مشبوهة
إب نيوز 31 يوليو
فهد شاكر أبوراس
برعاية سعودية فرنسية وأمريكية، ومتخذاً من شعارات السلام غطاء لتنفيذ أجندة خطيرة: منها إجهاض حق الشعب الفلسطيني في المقاومة المسلحة، وتكريس تبعية السلطة العميلة للإحتلال، وإنقاذ الكيان من مأزقه العسكري والأخلاقي بعد عامين من الإبادة الجماعية والمجازر الوحشية والحصار والتجويع في قطاع غزة، انعقد مؤتمر ما يسمى بـ “حل الدولتين” في نيويورك.
هذا المؤتمر ليس محاولة جادة لتحرير فلسطين، بل هو صفقة سياسية مصممة بدقة لتحقيق ما عجزت دبابات الاحتلال عن تنفيذه: “نزع سلاح المقاومة الفلسطينية” و “تصفية مشروع التحرر الوطني تحت مسمى التسوية السلمية”.
لقد كشف “إعلان المؤتمر” الختامي النقاب عن الهدف الحقيقي للمؤتمر “بمطالبة حماس صراحة بتسليم أسلحتها لما تسمى بـ “السلطة الفلسطينية”، كشرط مسبق لأي عملية سياسية”.
هذا المطلب ليس طارئ، بل هو لب المشروع الذي تريده إسرائيل وحلفاؤها: “تحويل القضية الفلسطينية من قضية تحرر وطني إلى مشكلة أمنية يتم حلها بنزع سلاح المقاومين”.
يريد المؤتمر ان يشرعن هذا المطلب الخادع تحت شعار “الدولة الواحدة”، متجاهلاً أن ما تسمى “السلطة الفلسطينية” لم تكن يوماً ولن تكون ممثلاً شرعياً للإرادة الفلسطينية بعد تآمرها على المقاومة وتنسيقها الأمني مع الاحتلال.
كيف يطلب من شعب تحت القهر أن يسلم أدوات دفاعه لسلطة تعتمد في بقائها على رضا المحتل.؟! إنها معادلة الخيانة بعينها.
لم يكن صدفة أن تغيب حركات المقاومة عن المؤتمر بينما احتفت السلطة العميلة بنتائجه، فالوثيقة الختامية للمؤتمر تريد أن تمنح سلطة عباس شرعية دولية جديدة وتجعلها الوصي الوحيد على المشروع السياسي، رغم فقدانها الشرعية الشعبية منذ سنوات.
المشاركة العربية الفاعلة في المؤتمر لم تكن أكثر من مجرد غطاء لإضفاء الشرعية على عملية تصفية الحقوق الفلسطينية، مصر ـ السعودية ـ وقطر، الدول العربية التي لطالما أظهرت الدفاع عن القدس وفلسطين، وأبطنت التنسق أمنياً مع إسرائيل، والأفظع في الأمر هو أن الإعلان الختامي للمؤتمر سجل أول إدانة عربية جماعية لهجمات المقاومة على الكيان في 7 أكتوبر، في خطوة وصفتها الدبلوماسية الفرنسية بأنها “تاريخية” نعم إنها تاريخية في خيانتها، فإدانة عمليات المقاومة والتغاضي عن جرائم الحرب الصهيونية ليست “توازناً أخلاقياً” بل انحيازاً صارخاً لرواية الإحتلال.
لقد جعلت هذه الدول من نفسها أدوات في آلة الدعاية الصهيونية، مقدمة المقاومة للإحتلال على طبق من ذهب تحت مسمى “الإرهاب” ومحاولة تلميع المؤتمر بالإعلان عن نية 15 دولة بينها بريطانيا وفرنسا وكندا الاعتراف بدولة فلسطين، كأداة ضغط جديدة لدفع الفلسطينيين لقبول شروط الاستسلام.
فالدول التي تواطأت على مدى عامين من حرب الإبادة على غزة تريد اليوم وبكل وقاحة أن تقدم “اعترافاً” مشروطاً بنزع سلاح المقاومة، أي اعتراف هذا الذي يأتي بمقابل تنازل الفلسطينيين عن حقهم في الدفاع عن أنفسهم.؟!
يدعي المؤتمر وضع “خريطة طريق” زمنية (15 شهراً) لتحقيق حل الدولتين، لكنه يكرر نفس نموذج أوسلو الفاشل: مفاوضات لا تنتهي، وتنازلات فلسطينية متتالية، واستيطان إسرائيلي متسارع، هذه “الخطوات” مصممة لكسب الوقت لإسرائيل لتهويد القدس وابتلاع ما تبقى من الضفة.
كان الرفض الشعبي الفلسطيني والعربي لذلك المؤتمر بمثابة صرخة مدوية ضد خيانة النخب، ففي الوقت الذي رحبت فيه سلطة عباس العميلة بالمؤتمر واعتبرته “نقلة نوعية”، اجتاحت موجة غضب عارمة الشارع الفلسطيني، ورأى فيه الجميع خيانة لدماء شهداء غزة الذين سقطوا دفاعاً عن كرامة الأمة. فالمقاومة المسلحة لم تكن خياراً ترفيهياً، بل كانت ولا تزال رداً طبيعياً على احتلال يستبيح الأرض والإنسان، ورفض ما يسمى بمؤتمر “حل الدولتين” ليس رفضاً للسلام الحقيقي، إنما رفض لسلام المذلين الذي يكافئ الجلاد ويجرم الضحية.
دماء الشهداء في غزة والضفة هي التي كتبت ملحمة الصمود، وستظل البوصلة التي تقود طريق التحرير، مهما تعددت مؤتمرات الخيانة.
إن مؤتمر نيويورك ليس بداية الطريق نحو الدولة الفلسطينية، بل محطة جديدة في مسار تصفية القضية الفلسطينية، ونجاحه سيكون نجاحاً للمشروع الصهيوني في تحقيق ما عجزت عنه أسلحته، وفشله سيكون شهادة وفاة لآخر محاولة دبلوماسية لإنقاذ “إسرائيل”.
رياح التغيير تأتي من أسوار غزة لا من قاعات الأمم المتحدة الفاخرة، وقد أثبتت المقاومة الفلسطينية أنها القوة الوحيدة القادرة على فرض معادلات جديدة، وأثبتت أن دماء الشهداء هي الوقود الذي أحرق وسيحرق مشاريع الاستسلام، والطريق إلى القدس يمر عبر صواريخ المقاومة وجبهات الإسناد لا عبر مكاتب سلطة عباس، وشتان بين من يموت دفاعاً عن الأرض ومن يتنعم بكراسي المؤتمرات.
إنها معركة وجود لن تنتهي إلا بتحرير كل ذرة من تراب فلسطين، وما الاعتراف الغربي بدولة فلسطين الذي روجت له الدول المشاركة في المؤتمر إلا صفعة جديدة للكرامة الفلسطينية.
فرنسا وبريطانيا وكندا ودول أخرى تقدم “هدية” مشبوهة بعد عامين من التواطؤ في الإبادة الجماعية في غزة والمجاعة، وهي التي زودت إسرائيل بالأسلحة وغطت جرائمها في الأمم المتحدة، وتريد الآن تقديم نفسها كمنقذ للقضية الفلسطينية، أي نفاق هذا.؟! فلسطين ليست كياناً ناشئاً يحتاج للإعتراف، بل هي أمة جذورها ضاربة في التاريخ، ووجودها القانوني ثابت، والاعتراف الغربي المتأخر بها والمشروط هو محاولة يائسة لغسل الأيدي الملطخة بدماء أطفال غزة، وتقديم صكوك شرعية مزيفة لسلطة فقدت شرعيتها منذ سنوات.
الرئيس الفرنسي ماكرون الذي أعلن الاعتراف خلال المؤتمر لم يحرك ساكناً عندما كانت إسرائيل تجوع مليوني إنسان في قطاع غزة، والآن يريد أن يظهر كبطل للسلام! هذه المهزلة لا تخدع أحداً.
الاعتراف الحقيقي بدولة فلسطين يبدأ بالاعتذار عن جرائم الاستعمار والصهيونية، ودفع تعويضات عن عقود من الاحتلال، ومحاكمة مجرمي الحرب الإسرائيليين، وتمكين الشعب الفلسطيني من حقه في الدفاع عن نفسه، لا نريد اعترافاً يأتي على جثث الأطفال وفي ظل استمرار التهجير والاستيطان.
ما تسمى “السلطة الفلسطينية” ليست إلا أداة طيعة في يد الاحتلال، تشارك في تطبيع الجريمة وتقديم التنازلات تلو التنازلات، بعد مجزرة خان يونس التي ارتكبها الاحتلال في يوليو 2024م، رأينا كيف أن قيادات السلطة وحركة فتح سارعت إلى ترديد الرواية الإسرائيلية واتهام حماس باستخدام المدنيين كـ “دروعاً بشرية”، بل إن بيان الرئاسة في تلك السلطة حمل حماس وجعلها “شريكاً في تحمل المسؤولية القانونية والأخلاقية” عن استمرار الحرب. وهذه الخيانة المكتملة ليست مفاجئة لمن تابع دور السلطة كشرطي أمني للاحتلال في الضفة الغربية ورام الله، حيث تتعاون أجهزتها الأمنية يومياً مع الجيش الصهيوني في اعتقال وقتل المقاومين، ومؤتمر “حل الدولتين” كرس هذا الدور الخياني ومنح السلطة صلاحية نزع سلاح المقاومة في غزة تحت شعار “الشرعية”.
كيف لسلطة فقدت شرعيتها الشعبية، وتآمرت على أرضها وشعبها، وباركت الحصار على غزة، أن تطالب بتسليم سلاح من دافعوا عن الأطفال والنساء والشيوخ بينما كانت هي تصافح جلاديهم..؟!
إنها مهزلة تاريخية تذكرنا بدور العملاء في كل حقبة استعمارية.
ولا عجب أن الشارع الفلسطيني يرفض هذه السلطة جملة وتفصيلاً، وأن دماء شهداء غزة ستظل تلاحق خائني رام الله والضفة إلى يوم القيامة، وستظل المقاومة الفلسطينية هي من تكتب ملحمة البطولة رغم كل المؤامرات، فبعد عامين من طوفان الأقصى، لا تزال كتائب القسام وسرايا القدس وغيرها من فصائل المقاومة تقصف دبابات الاحتلال وتدمر آلياته وتقتل جنوده في رفح وخان يونس وشمال غزة، رغم سياسة الأرض المحروقة وتدمير 70% من مباني القطاع، لم تستطع آلة الحرب الإسرائيلية كسر إرادة المقاومة أو إنهاء وجودها العسكري.
وهذا هو الرد الحي على مؤتمر نيويورك ومخططات نزع سلاح المقاومة: كل طلقة تُطلق على دبابة إسرائيلية، وكل صاروخ يطلق نحو المستوطنات، وكل كمين ينصب للجنود المحتلين هو تصويت بالدم على رفض مشاريع الاستسلام.
لقد أثبتت المقاومة أنها ليست مجرد فصائل مسلحة، بل هي إرادة شعب تجسدت في فعل ثوري يرفض الانصياع للاستعمار، ونجاحها في تعطيل آلة الحرب الإسرائيلية رغم اختلال موازين القوى، وتكبيد الاحتلال خسائر لم يتعرض لها قبل، وإفشال كل أهداف الحرب الإسرائيلية من استعادة الأسرى إلى القضاء على حماس يعد انتصارا استراتيجي للمقاومة بكل المقاييس العسكرية والسياسية.
الغرب الذي يدير مؤتمر “حل الدولتين” هو شريك أساسي في جريمة إبادة غزة، فالولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وألمانيا هي من زودت الكيان الصهيوني بالأسلحة والقنابل الذكية والغطاء الدبلوماسي في الأمم المتحدة بينما كان يرتكب أبشع المجازر في قطاع غزة.
فالرئيس الفرنسي الذي يتبنى الآن “الاعتراف” بدولة فلسطين هو نفسه الذي منع فرض عقوبات على إسرائيل عندما دمرت مستشفيات غزة وحاصرت أهلها حتى الموت جوعاً.
وبريطانيا التي تعلن عن نيتها للاعتراف بدولة فلسطين، شاركت في الدفاع الجوي الإسرائيلي ضد الصواريخ الإيرانية، أي نفاق يفوق هذا..؟!
هذه الدول لا تريد فقط أن تخدع الفلسطينيين باعترافاتها المتأخرة، بل تحاول إنقاذ إسرائيل من العزلة الدولية بعد فضح جرائمها في المحاكم الدولية.
الاعتراف الغربي بالدولة الفلسطينية ليس خطوة نحو التحرير، بل هو أداة لتحويل القضية الفلسطينية من قضية تحرر وطني إلى “مشكلة إنسانية” تدار بواسطة سلطة عميلة تحت الوصاية الدولية.
إنهم يريدون فلسطين بلا مقاومة، وبلا سيادة، وبلا حق في الدفاع عن النفس، ولهذا يربطون الاعتراف بنزع السلاح و”إصلاح” السلطة العميلة، أي تطويعها بالكامل لأجندتهم، ولكن دماء الشهداء التي روت أرض غزة هي وحدها من يمنح الشرعية، لا أوهام الاعترافات المشبوهة، وهي جواز السفر الوحيد للحرية، لا مسرحية مؤتمر “حل الدولتين” الهادف إلى تصفية القضية الفلسطينية.