من ديكور الجو إلى جحيم الأرض: ضجيج الإنزال الصهيوني وتواطؤ الصامتين
إب نيوز 5 أغسطس
فهد شاكر أبوراس
الضجيج الإعلامي المفتعل، المرافق لعمليات الإنزال الجوي للمساعدات الإنسانية المزعومة في سماء غزة، عملية تمويه ضخمة ومصممة لخداع الضمير الإنساني العالمي.
تحاول آلة الدعاية الصهيونية ومن ينساق خلفها من الإعلام الدولي الغربي والعربي، تصوير عمليات الإنزال وكأنها جهد إنساني كبير وغير مسبوق، ولكن الحقيقة هي أن “الجمل تمخض فولد فأراً” وما تلك الضجة الإعلامية الهائلة إلا ستار دخاني لإخفاء هزال المضمون، فما تم إسقاطه من طائرات العدو الصهيوني وحلفائه، بحسب اعترافات إذاعة العدو، لا يتجاوز في مجمله حمولة خمس شاحنات صغيرة، قطرة ماء واحده سقطت على محيط من العطش والجوع المتعمد لخنق مليوني إنسان في قطاع غزة، وهذا يكشف حجم الخداع والمسرحية الهزلية التي تمت إدارتها بعناية فائقة لتصوير الإحتلال وكأنه منقذ إنساني، بينما هو في جوهره جلاد يرفع السوط بيد ويمسك بفتات الخبز باليد الأخرى.
لا إنزالاً جوياً حقيقياً يوازي الاحتياج، ولا إدخالاً بحرياً يذكر، ولا زحفاً برياً يفتح الطريق لأكثر من ستة آلاف شاحنة محملة بالدقيق والأدوية والحليب وأساسيات البقاء، في طابور معبر رفح.
عشرات الشاحنات فقط هي التي سمح لها بالعبور من بين آلاف الشاحنات العالقة، وكأنها رشة ماء على حجر ملتهب، لا تكاد تلامس حافة الأزمة الإنسانية المتفاقمة في قطاع غزة.
الأمر الأكثر إيلاماً هو أن هذه المساعدات الشحيحة التي تصل بشق الأنفس لا تصل غالباً إلى من يحتاجها حقاً من أطفال يتضورون جوعا وعجزة يموتون صمتاً، بل يستولي عليها قراصنة الأرض وعصابات السلب المنظمة ومرتزقة السلطة الموازية الذين يأتمرون بأمر المحتل، ويوزعونها وفق أجندته التي تحول الإغاثة إلى أداة للابتزاز والسيطرة والاستعراض الإعلامي الزائف.
إنها حلقة مفرغة من التهريب المنظم تحت سقف التنسيق الأمني الذي يخدم في النهاية رواية المحتل وأهدافه في استمرار العقاب الجماعي.
وهنا تكمن العقلية الاستعلائية المتجذرة للمشروع الصهيوني التي يعبر عنها وبكل وقاحة وصفاقة وزير مالية الكيان “سموتريتش” بقوله أن “القانون الدولي لا ينطبق على اليهود”، وهذه الجملة ليست زلة لسان عابرة، بل هي خلاصة فكر عنصري استيطاني يؤمن بتفوق عرقي وديني مزعوم، ويمنح نفسه حق الانتقاء في تطبيق المواثيق والأخلاق، ويعتبر نفسه فوق القانون وفوق المحاسبة.
إن هذا التصريح الصادم ليس انحرافاً عن مسار “الديمقراطية الغربية” المزعومة، بل هو جوهرها الحقيقي غير المعلن، الذي يشرعن الاحتلال والاستيطان والتجويع والقتل.
إن تصريح “سموتريتش” هو المرآة العاكسة للطبيعة الحقيقية للكيان الذي يحتل فلسطين، كيان بني على فكرة الاستعلاء والتفرد والإفلات من العقاب، ويرى في أهل الأرض الأصليين كائنات أدنى درجة، لا تستحق الحياة الكريمة ولا تستحق حتى الفتات الذي يسقط من السماء كصدقة مدوية.
الأكثر إيلاماً وحزناً في هذه المأساة، هو مشهد المتواطئين المغفلين من حكام الأنظمة العربية الذين ينساقون كالقطيع في ركب المشروع الصهيوني، يطبعون مع الجلاد، لإضعاف جبهة المقاومة، ويساهمون بشكل مباشر أو غير مباشر في تطويق غزة وإطالة أمد حصارها.
أنظمة خائنة مطبعة بلا قرار أو عمل منوط غير حراسة معبر رفح وغيره، ليس لضمان وصول المساعدات إلى أهلنا في قطاع غزة، بل لضبط تدفقها بالكمية والطريقة التي يمليها عليها الكيان الصهيوني، لتحقيق “التوازن” المريض بين إطالة أمد المعاناة في غزة دون ولكن دون حدوث انفجار إنساني كامل يحرج المحتل وحلفاءه.
وهذا التواطؤ العربي المريع والمخزي هو الذي يسمح للعدو الصهيوني بالاستمرار في سياسة التجويع كسلاح حرب في غزة، والاستهتار بكل القوانين الدولية، فهو يدرك أن العرب، للأسف الشديد هم من سيحملون له عباءة الحماية في المحافل الدولية ويقدمون له غطاء “التطبيع” الذي يخنق من خلاله أبناء غزة.
إن الإنزال الجوي، بكل ما رافقه من ضجيج مبالغ فيه، كان مجرد ديكور درامي باهظ الثمن، ومحاولة يائسة لغسل الصورة القاتمة لسياسة التجويع المتعمدة، ولا يحل أزمة المجاعة المصنوعة بإرادة سياسية صهيونية مدعومة من الغرب، بل هو إجراء هامشي غير فعال وخطير على المدنيين الذين يتدافعون من أجل الوصول إلى الطرود أو تسقط عليهم في مناطق القتال.الحل الحقيقي بسيط وواضح ومباشر: وهو “فتح كافة المعابر البرية”، خاصة معبر رفح، بشكل دائم وآمن، والسماح بتدفق غير مقيد لآلاف الشاحنات المحملة بالمساعدات التي تنتظر على الحدود، ووقف استخدام الغذاء والدواء كسلاح حرب، وهذا هو المطلب الإنساني والقانوني العاجل، وأي حديث عن جهود إغاثة حقيقية دون تنفيذ هذا الشرط الأساسي هو ضرب من النفاق والتمويه على الجريمة المستمرة.
المسرحية الجوية لن تطعم جائعاً واحداً بشكل مستدام، ولن تعالج طفلاً واحداً يحتضر بسبب إنعدام الأدوية، بل هي مجرد مسكن مؤقت لضمائر العالم، بينما تستمر آلة القمع الصهيونية في حصارها الخانق وسياستها الرامية إلى تطهير غزة من أهلها وتهجيرهم قسراً، في إطار مشروع استيطاني توسعي لا يخفي أهدافه.
إن الصمت الدولي والتواطؤ العربي على هذه الجريمة الإنسانية، في ظل خطاب استعلائي صهيوني يعلن رفضه للقانون الدولي والأخلاق الإنسانية، هو وصمة عار في جبين الإنسانية كلها، وشاهد إثبات على أن “المعايير الصهيونية المزدوجة” ليست فقط مجرد شعار، بل هي السياسة الفعلية التي تحكم العالم في تعامله مع شعب فلسطين.