ثلاثية كسر الهيبة: غزة واليمن ولبنان في مواجهة الإبادة
إب نيوز 6 أغسطس
فهد شاكر أبوراس
في خضم المذابح الصهيونية المنظمة التي تطحن لحم غزة وشعبها تحت آلة حرب لا تعرف الرحمة ولا القانون، ينهض غضب يتيم في هذا الزمن العاري من الضمير الإنساني، غضب لا يجد صدى له إلا في صواريخ اليمن البعيدة وهي تشق عنان السماء نحو عمق الكيان الغاصب، رسائل نارية تترجم سخط أمة بلا منبر ولا سفارات، بينما يغرق العالم في صمت قاتل أو تواطؤ سافر، وكأن دماء الاطفال الفلسطينيين في رفح وتل السلطان وجباليا ليست سوى ضجيج خلفي في مسرحية المصالح الكبرى.
امريكا تمثل دور الشريك الفاعل في الابادة، لا بمجرد الدعم السياسي أو التمويل العسكري، بل بنقل نظريات الصدمة والرعب التي اختبرتها في هيروشيما وفيتنام والعراق الى مختبر غزة، حيث تطبق بتفان صهيوني لتحقيق حلم التطهير العرقي الممنهج، بينما تقف دول اوروبا التي ترفع شعارات حقوق الإنسان صفاً خلف واشنطن، داعمة ببرود جرائم حربها عبر صمتها أو بتسويغ الاغتيالات والتهجير القسري، ولا يكمل المشهد المؤلم إلا تيار التطبيع العربي الذي انضم إلى هذا التحالف المشين، فاصبح خط الدفاع الأول عن الكيان بمواقفه المترددة وحدوده المفتوحة وسفاراته العاملة، وكأن فلسطين مجرد ملف دبلوماسي يناقش في قاعات مكيفة، لا ارضاً تنتهك حرمتها، وشعبا يباد بالأسلحة المحرمة.
المفارقة الأكثر مرارة على العدو تكمن في أن كل هذه القوة المتوحشة المدعومة بأعتى آلة إعلام وأضخم ترسانة عسكرية فشلت في تحقيق النصر المطلق الذي روج له نتنياهوا، بل أنقلبت عليه ازمات وجودية تكشف هشاشة هذا الكيان المصطنع، فما أن تعلو تصريحاته التهديدية باحتلال غزة أو توسيع رقعة الحرب، حتى تقابل بالسخرية المريرة داخل الأوساط الصهيونية نفسها، فالاصوات الاسرائيلية تتساءل باستياء: “هل بقي شيء لم تفعله اسرائيل؟” سؤال يعكس حقيقة مفادها أن القصف المكثف والتجويع المنهجي والتهجير القسري لم ينتج سوى مزيد من الصمود والمقاومة، فغزة التي ارادوها جثة هامدة صارت أيقونة للكرامة، وشعبها الذي خططوا لنزع روحه يزداد تشبثا بأرضه مهما أرتفعت التضحيات، وها هي المقاومة الفلسطينية، رغم شدة الحصار وضراوة القصف، تثبت يوماً بعد يوم أنها قادرة على ضرب عمق الكيان وأسر جنوده وتكبيده خسائر مادية ومعنوية لا تحتمل، فمعركة جباليا الأخيرة قبل مجزرة رفح بيومين كانت دليلا حيا على ان سيف الإحتلال لم يعد يخيف أحداً، بينما يتنقل الكيان الصهيوني في دوامة الإخفاق، من خطة عسكرية فاشلة إلى أخرى، وكانه يركض في حلقة مفرغة من العنف الذي لا يحقق سوى مزيد من العزلة العالمية والإنهيار الداخلي، فتهديدات نتنياهوا الجوفاء باحتلال غزة لم تكن سوى صفارة إنذار لشعبه بان المشروع الصهيوني يعيش أزمة وجودية لا حل لها إلا بالهروب إلى الأمام عبر المزيد من الدم، لكن الدم الفلسطيني، برغم ماساويته، صار شعلة تحرق مشاريعهم الواهية، وفي اليمن البعيد جغرافياً والقريب قلبا وإيماناً، يترجم الغضب الشعبي إلى فعل ملموس يهز كيان العدو من الأعماق، فصواريخ باليستية متطورة تضرب حيفا والنقب وبئر السبع، لا كفعل رمزي، بل كضربات إستراتيجية تجبر ملايين المستوطنين على الإختباء في الملاجئ وتعطل الحياة في العمق الإسرائيلي، بينما وزارة الدفاع اليمنية تعلن بثقة ان هذه الضربات “لن تتوقف الا بوقف العدوان ورفع الحصار”، جملة بسيطة لكنها تحمل زلزالاً في مضمونها، وتعيد رسم معادلة الصراع بعد أن ظن الكيان أن الجغرافيا تحميه، والاهم من الصواريخ هو الزخم الشعبي اليمني المنقطع النظير، فالمشاهد التي تبث من ميدان السبعين في العاصمة اليمنية صنعاء والمحافظات، حيث المواكب المليونية والأعلام الفلسطينية ترفرف في سماء اليمن، تقدم درسا في الإيمان والوفاء، فشعب يعاني من حرب ظالمة وحصار قاس يخرج بكل ما يملك لينصر اخوته في غزة، رافعاً شعارات تهز ضمير الامة: “لن نتهاون امام ابادة غزة”، ومطالبا بفتح الحدود في مشهد يذكر بايام العروبة الحقيقية التي عفا عليها الزمن، بينما خطابات علماء اليمن التي تفضح خذلان علماء السلاطين في الخليج ودول الطوق المجاورة لفلسطين: صرخات تثقب جدار الصمت الديني الرسمي الذي بارك التطبيع أو سكت عن المجازر، ولا يقتصر الغضب اليمني على المستوى الشعبي فقط، بل يتواصل اليوم عبر حراك طلابي متجدد في الجامعات، ولقاءات قبلية تعلن استعدادها للجهاد، وحراك شعبي وان كان محدودا في بعض عواصم ومدن العالم، وبالتوازي مع حرب غزة والضربات اليمنية، هناك جبهة ثالثة ساخنة في لبنان، حيث تتوالى الضغوط الدولية والعربية بكثافة غير مسبوقة لتحقيق هدف استراتيجي واحد: نزع سلاح المقاومة، فبعد أن فشلت الحرب التدميرية عام 2006 في كسر ارادة حزب الله، يعود التحالف الأمريكي الإسرائيلي، بدعم عربي، لفرض معادلة جديدة تستغل الأزمة الإقتصادية والإنقسام السياسي في لبنان لتحقيق ما عجزت عنه الدبابات، لكن أمين عام حزب الله، الشيخ نعيم قاسم، قطع الطريق مبكراً على هذه المخططات وأكد في خطاب واضح وصريح أن “السلاح لمصلحة كل لبنان”، مشيراً إلى أن هذا السلاح هو الذي حمى لبنان من مصير غزة عندما منع العدو من الوصول إلى بيروت عام 2006، وهو القادر اليوم على التصدي لاي عدوان جديد بل وتحقيق الإنتصار، داعياً الدولة اللبنانية إلى الوقوف بوجه الضغوط بدل الإنخراط في “مؤامرة تجريد شعبها من القوة”، مذكراً إياها بان مصير المقاومة لا يقرر بـ”تصويت داخل الحكومة”، بل قوة شعبية متجذرة وإرث وطني، والمقاومة اليوم “بخير” وقادرة أكثر من أي وقت مضى على حماية لبنان وسيادته، وهذا التصريح ليس مجرد رد عاطفي، بل هو ترجمة لواقع القوة الرادعة التي تمتلكها المقاومة، والتي جعلت حدود لبنان الشمالية مع فلسطين المحتلة جبهة ساخنة تثقل كاهل الجيش الصهيوني وتربك حساباتة، ففي الوقت الذي يركز فيه جيش الإحتلال على غزة، يجد نفسة مضطراً لتحصين حدوده مع لبنان، تخوفاً من فتح جبهة ثانية قد تكون أكثر تدميراً وهكذا تتفاعل الجبهات الثلاث غزة واليمن ولبنان في تناغم غير معلن، لتشكل محور صمود يكسر هيبة العدو ويعري زيف قوته المطلقة، فغزة ترابط وتصمد وترد الضربات على الرغم من الدمار الشامل، واليمن يقلق العمق الإسرائيلي ويحرج الانظمة العربية بصموده الشعبي البطولي، ولبنان يحرس حدوده ويفشل مخططات نزع سلاح مقاومته، بينما يقف العالم متفرجاً أو شريكاً، تتهاوى على اعينه كل الشعارات الدينية عن الأخوة الإنسانية، وتتهافت عناوين الإنسانية الزائفة التي تتحدث عن حقوق الإنسان فقط عندما يكون الضحية أوروبياً أو أمريكياً، أما إذا كان الضحية فلسطينياً فالقضية “معقدة” وتحتاج الى “توازن”! إن امتحان غزة كشف المستور، وأسقط أقنعة الكثيرين، وحضرت أمريكا كقوة إبادة لا كوسيط سلام، وحضرت معها أوروبا كخادم مخلص للمشروع الإستعماري الجديد، وحضر التطبيع العربي كخنجر في ظهر الامة، لكن هذا الحضور المشين لم ينتج نصراً بل أنتج أزمات متلاحقة للكيان، جعلته يعيش في دوامة الإخفاق ويهرول من فشل الى آخر، بينما دماء شهداء غزة، من رفح إلى تل السلطان إلى جباليا، تضيء طريق العودة، وتثبت أن زمن الهزيمة قد ولى، وأن زمن المقاومة والصمود هو زمن الحقيقة الذي لا يرد.