إرادة المقاومة تفوقُ التكنولوجيا.. السلاحُ “البسيط” كابوس الاحتلال
إب نيوز ٩ أغسطس
فهد شاكر أبوراس
يشكّل التركيزُ الإسرائيلي المكثّـفُ على نزع سلاح المقاومة في غزة، وحزبِ الله في لبنان، ومن سمَّتهم (إسرائيل) بالحوثيين في اليمن، وهو سلاحٌ غالبًا ما يوصفُ بأنه “بدائي” أَو “غيرُ متطوِّر” مقارنةً بالترسانة الإسرائيلية والغربية المتقدمة، أَو حتى ما تمتلكُه بعضُ جيوش التطبيع العربية النظامية، مفارقةً استراتيجيةً عميقةً تكشفُ عن حقائقَ جيوستراتيجية مريرة حول طبيعة القوة والردع في الصراع العربي الإسرائيلي.
التركيزُ الإسرائيلي الدؤوب، والذي يتجلى في الحروب المتكرّرة على غزة، والتهديدات المُستمرّة لحزب الله، والضربات الجوية في اليمن، يقف في تناقض صارخ مع موقف (إسرائيل) النسبي الأكثر “هدوءًا” تجاه امتلاك دول عربية مطبعة، مثل مصر والسعوديّة والإمارات، وقطر، لأسلحة متطورة كالطائرات الحديثة مثل “رافال” وَ”سو-35″، وامتلاك بعضها أنظمة دفاع جوي متقدمة مثل “إس-300″، وحتى التلميحات أَو الإمْكَانات النووية المحتملة.
وهذا التناقض ليس اعتباطيًّا، بل هو في حقيقة الأمر نتاج لمعادلات معقدة من العوامل العسكرية والسياسية والنفسية والاستراتيجية التي تحدّد ما يهدّد (إسرائيل) وجوديًّا وما لا يهدّدها، بغض النظر عن التطور التقني الظاهري للسلاح نفسه.
لذا فَـإنَّ القلق الإسرائيلي من السلاح “البدائي” للمقاومة ينبع من طبيعة هذا السلاح، وطريقة استخدامه، والسياق الذي يعمل فيه.
فحزب الله، على سبيل المثال، استطاع عبر سنوات بناء ترسانة صاروخية ضخمة “يُقدّر عددها بما يزيد عن 150 ألف صاروخ”، رغم بدائية الكثير منها “كاتيوشا، صواريخ محلية التصنيع”، إلا أن هذه الصواريخ، على الرغم من دقتها المحدودة مقارنة بالصواريخ الباليستية الإسرائيلية، تشكل تهديدًا وجوديًّا لـ(إسرائيل) لسببَينِ رئيسيَّينِ:
الأول: هو الكم الهائل الذي يمكن أن يغرق منظومة “القبة الحديدية” مهما بلغت كفاءتها النظرية، تحت وابل من النيران.
الثاني: هو الموقع الجغرافي لحزب الله في جنوب لبنان، القريب جِـدًّا من العمق الإسرائيلي الحيوي، بما في ذلك تل أبيب وحيفا ومفاعل ديمونة؛ ممّا يجعل زمن التحذير قصيرًا للغاية ويصعب عملية الاعتراض.
التجربة المؤلمة لـ(إسرائيل) في حرب تموز 2006، حَيثُ فشلت (إسرائيل) في تحقيق أهدافها الاستراتيجية، وخرج حزب الله متماسكًا بل ومنتصرًا عسكريًّا ومعنويًّا رغم الدمار الهائل، هي شاهد حي على فاعلية هذا النموذج من الردع.
وفي غزة، القصة تتكرّر ولكن بشكل مختلف، فصواريخ القسام والجهود المضنية “والمكلفة” التي تبذلها (إسرائيل) لتدمير “أنفاق المقاومة”، التي تكلف في حفرها أحيانًا بضعة آلاف دولارات فقط، بينما تبلغ تكلفة الكشف عن نفق واحد وتدميره ملايين الدولارات، تكشف عن نفس المنطق.
هذه الأنفاق والصواريخ قصيرة المدى تمكّن حركات المقاومة الفلسطينية من تنفيذ عمليات نوعية “كاختطاف الجنود” أَو “إطلاق وابل صاروخي مفاجئ يخلق حالة من عدم الاستقرار الدائم في الداخل الإسرائيلي، ويربك الحياة اليومية في إسرائيل”، ناهيك عن التكلفة الاقتصادية الباهظة لحالة الطوارئ المتكرّرة، وتشغيل صافرات الإنذار، وتفعيل أنظمة الدفاع الجوي.
التهديد هنا ليس في تدمير (إسرائيل) بين عشية وضحاها، بل هو في تآكل أمنها الداخلي، وتقويض أُسطورة الجيش الذي لا يقهر، وتكريس حالة من الخوف والترقب المُستمرّ في أوساط المستوطنين؛ ممّا يمس جوهر فكرة “الملاذ الآمن” التي قامت عليها (إسرائيل).
في اليمن، الصواريخ الباليستية والفرط صوتية، والطائرات المسيرة “المصنعة محليًّا وبتكلفة زهيدة”، نجحت نجاحًا تامًا في تهديد ملاحة العدوّ الإسرائيلي وحلفائه في البحرين الأحمر والعربي، وضرب مواقع حيوية في العمق الإسرائيلي؛ ممّا أثبتت قدرتها على تجاوز الحدود الجغرافية التقليدية، وخلق تهديد استراتيجي جديد وبأدوات بسيطة نسبيًّا.
إن هذه الحركات المقاوِمة، بسلاحها “البدائي”، تمتلك الإرادَة القتالية المطلقة والاستعداد للتضحية، ولديها قدرة على الصمود والاستمرار رغم التفوق الجوي والساحق لـ(إسرائيل)، كما رأينا في حروب غزة 2008، 2012، 2014، 2021، و2023. إن هذه العوامل مجتمعة تحول السلاح “البدائي” إلى أدَاة حرب استنزاف فعالة تهدّد الأمن القومي الإسرائيلي في صميمه.
في المقابل، فَـإنَّ امتلاك الأنظمة العربية المطبعة للأسلحة المتطورة، مهما بلغت حداثتها وقوتها النظرية، إلا أن امتلاكها لا يثير نفس المستوى من القلق الوجودي في تل أبيب، بل قد ينظر الكيان إليه أحيانًا بتكتم أَو حتى بقبول ضمني، والسبب الجوهري ليس في ضعف هذه الأسلحة تقنيًّا، بل في غياب الإرادَة السياسية والاستقلالية الاستراتيجية لاستخدامها ضد (إسرائيل)، والسياقات الدولية والتحالفية التي تحكم هذه الأنظمة.
فاتّفاقيات السلام مع مصر سنة 1979م، والأردن سنة 1994م، حولت هذين الجيشين النظاميين الكبيرين والقريبين جغرافيًّا من خطوط التماس حرفيًّا إلى قوة غير فاعلة في المعادلة مع (إسرائيل).
امتلاك مصر للطائرات الحديثة مثل طائرات “الرافال” أَو حتى امتلاك أنظمة دفاع جوي متقدمة مثل “إس-300” أَو حتى “400”، يتم في إطار معادلة أمنية إقليمية تركز على مواجهة ما يسمى صهيونيًّا بالإرهاب وليس لتهديد (إسرائيل)، حتى أن اتّفاقية السلام نفسها، المدعومة أمريكيًّا بقوة، تشكل حاجزًا دستوريًّا وسياسيًّا وعمليًّا خَاصَّة مع الاعتماد على المساعدات الأمريكية، يمنع أي تصعيد ضد (إسرائيل)، والسيناريو نفسه ينطبق على الأردن، حَيثُ العلاقات الأمنية الوثيقة مع (إسرائيل) تتفوق على أي توتر سياسي.
أما بالنسبة لدول الخليج المطبعة “الإمارات، السعوديّة، قطر، البحرين”، فَـإنَّ التطبيع نفسه هو اعتراف ضمني بعدم العدائية، وتبني لرؤية أمنية تقوم على التحالف مع الغرب و(إسرائيل)، وامتلاك هذه الدول للأسلحة المتطورة غالبًا ما يكون لغرض تعزيز مكانتها الإقليمية، أَو المشاركة في تحالفات خارجية، كتحالف العدوان على اليمن، أَو للردع في مواجهات أُخرى.
(إسرائيل) تدرك جيِّدًا أن الأنظمة العربية العميلة والمطبعة مرتبطة بشبكة معقدة من المصالح والتحالفات مع الغرب، خَاصَّة مع الولايات المتحدة، وهذا يشكل ضامنًا أَسَاسيًا لأمن (إسرائيل).
بالإضافة إلى غياب الإرادَة العربية والتبعية الغربية، هناك عامل تاريخي ونفسي بالغ الأهميّة: فشل الجيوش النظامية العربية في تغيير المعادلة مع (إسرائيل) عبر الحروب التقليدية. هزيمة 1967 واحتلال سيناء والجولان والضفة الغربية، ثم حرب 1973 التي حقّقت نجاحًا تكتيكيًّا مبهرًا في أيامها الأولى لكنها لم تحقّق نصرًا استراتيجيًّا يحسم الصراع، ثم السلام المنفرد لمصر، ثم حرب لبنان 1982 واحتلال بيروت، ثم الانسحاب الأحادي الجانب من لبنان عام 2000 تحت ضغط المقاومة اللبنانية وليس الجيوش النظامية، ثم حرب 2006 وفشل (إسرائيل) في تحييد حزب الله، كُـلّ هذه المحطات رسخت في العقلية الإسرائيلية “والعربية أيضًا” قناعة بأن الحرب النظامية العربية المباشرة ضد (إسرائيل) لم تعد خيارًا عمليًّا أَو مرجحًا. لقد تم اختراق هذا النموذج فعليًّا، بينما نجح نموذج “المقاومة” غير النظامية، رغم محدودية إمْكَاناته، في تحقيق إنجازات ملموسة: ومنها تحرير جنوب لبنان عام 2000، والصمود في وجه أعتى آلة عسكرية في غزة، والضرب في العمق الإسرائيلي من اليمن. وهذا النجاح النسبي للمقاومة هو الذي يجعل سلاحها “البدائي” أكثر إثارة للخوف الإسرائيلي من طائرات الرافال المصرية أَو السعوديّة؛ لأَنَّ الأول يُستخدم فعليًّا ويؤذي، بينما الثاني لا يستخدم ولا يتوقع استخدامه ضد (إسرائيل).
الخلاصة الاستراتيجية الصادمة هي: الردع لا يقاس فقط بالقوة التقنية للسلاح، بل بالإرادَة السياسية لاستخدامه، والقدرة على تحمل تبعات استخدامه، والبيئة الجيوستراتيجية التي يعمل فيها، ومدى قدرته على إحداث تأثير حقيقي ومُستمرّ في بنية الخصم الأمنية والنفسية، والسلاح “البدائي” في يد حركات المقاومة يمتلك هذه المقومات: إرادَة لا تلين، استعداد للتضحية، قدرة على الاستنزاف، وتأثير عميق على الأمن الداخلي، والشعور بعدم الاستقرار في (إسرائيل).
بينما السلاح المتطور في يد جيوش الأنظمة العربية المطبعة والعميلة يفتقر إلى أهم مقومات الردع الفعلي: الإرادَة المستقلة لاستخدامه ضد (إسرائيل) والخروج عن الإملاءات الغربية، وهذا هو جوهر المفارقة، وتركيز (إسرائيل) الهستيري على نزع سلاح حماس وحزب الله ومن سمتهم بالحوثيين ليس دليلًا على “هشاشة” الأنظمة العربية عسكريًّا بالضرورة، فبعضها قوي تقنيًّا، بل هو دليل على هشاشة المشروع الصهيوني نفسه، والذي يقوم على أَسَاس فكرة “الملاذ الآمن” ليهود العالم، وهو مشروع تهدّده بشكل أَسَاسي إرادَة المقاومة المُستمرّة وصمودها غير المفهوم رغم كُـلّ الصعاب، وليس الترسانات المتطورة الخاملة في قواعد جيوش الأنظمة المرتبطة بشروط التطبيع والتبعية.
لذلك، ستستمر (إسرائيل) في بذل الغالي والنفيس لمحاولة نزع هذا السلاح “البدائي” الذي يخترق أُسطورتها الأمنية، بينما ستظل تنام قريرة العين وهي ترى صواريخ “إس-400” أَو طائرات “السو-35” في دول الجوار؛ لأَنَّها تعلم أن هذه الأسلحة، في الواقع العملي للسياسة الإقليمية والدولية اليوم، ليست أكثر من “أدوات زينة” في معرض القوة، ولا تمتلك أصابع على زناد موجه ضد كيانها، والمعادلة القاسية التي تكشفها هذه المفارقة هي أن السلاح الفعال هو الذي يُستخدم، بغض النظر عن درجة تطوره، وأن السيادة الحقيقية هي التي تمنح الإرادَة لاستخدام القوة، بغض النظر عن حجم الترسانة.