إسرائيل تستهدف الكلمة والإنسان معا
إب نيوز 18 سبتمبر
محمد صالح حاتم
لم تكن تلك اللحظة عابرة، ولا مشهدًا يمكن أن يُمحى من الذاكرة بسهولة. كنتُ قريبًا من مقر صحيفتي 26 سبتمبر واليمن في ميدان التحرير، حين استهدفهما القصف الإسرائيلي الغادر. رأيت بعيني كيف اخترقت الصواريخ سماء صنعاء، ثم دوّت الانفجارات، وتصاعدت أعمدة الدخان، واشتعلت ألسنة اللهب من قلب المبنى.
كانت النار ترتفع عاليًا، لكنها في داخلي بدت وكأنها تخرج من صدري وتشتعل في جوفي، تحرقني قبل أن تحرق الحجر والورق.
لم يكن الاستهداف موجها لمقر صحفي فحسب، بل كان اغتيالًا للكلمة، وإعداما للحقيقة. كانت الرسالة واضحة: كل من يجرؤ على أن يكتب أو يوثق أو يكشف جرائم الاحتلال سيكون هدفًا للصواريخ. فالصحافة بالنسبة للعدو أخطر من المدافع، لأنها سلاح الوعي ومرآة الحقيقة التي لا يريد لها أن تنعكس للعالم.
وفي تلك اللحظات، لم يكن المبنى وحده هو الضحية؛ فقد سقط العشرات من المدنيين في حي التحرير، وانهارت منازل فوق رؤوس ساكنيها. كان المشهد فاجعًا: نار ودخان وأنين ناجين يبحثون عن أحبتهم تحت الركام. تمازجت صورة الصحيفة المحترقة مع صورة الأحياء المدمرة، لتقول إن الحرب ليست على المباني ولا على المقرات فحسب، بل هي حرب على الإنسان والحياة والذاكرة.
وأنا أكتب هذه السطور، أستعيد المشهد بكل تفاصيله: الوجوه المذهولة، المباني المدمرة، والصرخات الموجوعة. كل ذلك يذكّرني بإخواننا في غزة الذين يعيشون المشهد ذاته يوميًا منذ أكثر من سبعمائة يوم؛ آلاف المنازل دُمّرت فوق ساكنيها، وعشرات الآلاف من الشهداء والجرحى يسطرون ملاحم الصمود.
إن ما حدث لصحيفتي 26 سبتمبر واليمن، والذي راح ضحيته 31 شهيدًا من الصحفيين وضعفهم من المدنيين الأبرياء، يكشف حقيقة العدو الإسرائيلي: عدو فاشل بلا أهداف عسكرية حقيقية، عدو لم يتمكن من وقف الصواريخ والطيران المسيّر اليمني التي تستهدف عمق المناطق المحتلة شبه يوميًا. وهذا ما يؤكد بما لا يدع مجالًا للشك حجم الألم والوجع الذي يتعرض له الكيان الغاصب من الضربات اليمنية، ويثبت صوابية الموقف اليمني في مساندة غزة وأبنائها.
لكن ما لا يفهمه العدو أن النار قد تلتهم الورق، لكنها لا تستطيع أن تحرق الكلمة في صدور الأحرار. وأن المباني قد تُهدم، لكن الحقيقة تبقى شاهدةً لا تموت. دماء الشهداء من الصحفيين والمدنيين في التحرير ستظل تصرخ في وجه القتلة، وتكون حافزًا ودافعًا لمواصلة مسيرة شهداء الكلمة والحقيقة. وستظل تذكّر الأجيال أن القصف قد يُسكت الصوت لحظة، لكنه لا يمكن أن يُسكت الحقيقة، ولا أن يمحو الذاكرة مهما طال الزمن.