خُطة ترامب.. وصايةٌ جديدة
إب نيوز ٣ أكتوبر
فهد شاكر أبوراس
لا تحمل أية ضمانات حقيقية لإنهاء الاحتلال أَو تحقيق الحقوق الأَسَاسية للشعب الفلسطيني.
في خضم الضغوط الدولية المتنامية والمواعيد النهائية المفروضة لقبول خطة ترامب أَو رفضها، تبرز حقائق استراتيجية عميقة تثبت أن الرفض ليس خيارًا مقبولًا فحسب، بل هو واجب وطني وقومي يتحمله الفلسطينيون بكل مسؤولية، فالخطة التي يطرحها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ليست سوى حلقة جديدة في سلسلة العدوان الممنهج على الحقوق الفلسطينية، إنها وجه آخر للحرب لكن بسلاح ناعم وأدَاة سياسية ماكرة، فهي صادرة عن طرف يعترف بشراكته الفعلية في العدوان على غزة، فترامب لم يعد وسيطًا محايدًا بل هو شاهد زور على عملية السلام، وهو شريك استراتيجي للعدو الإسرائيلي يتبنى كُـلّ مطالبه ويحقّق له عبر الطاولة المستديرة ما عجز عن فرضه بالدبابة والطائرة على مدى عامين من القتال المرير، وعبر عقود من الاحتلال البغيض، فالخطة بجوهرها تبني كُـلّ ما تسعى إليه (إسرائيل) من تفكيك للمقاومة ونزع سلاحها وإعادة تشكيل الواقع في غزة بما يخدم الأمن الإسرائيلي فقط دون أدنى اعتبار لأمن الفلسطينيين أَو كرامتهم.
لقد جاءت خطة ترامب مُجَـرّدة من أي إشارة أخلاقية أَو إنسانية تليق بمعاناة الشعب الفلسطيني، فهي لم تتضمن أي إدانة حقيقية لاستشهاد أكثر من سبعين ألف فلسطيني، ولم تعترف بجرائم الحرب التي ارتكبتها (إسرائيل)، بل تعاملت مع الدم الفلسطيني وكأنه ماء مسكوت عنه، وكأن الأرواح التي ذهبت ضحية للآلة العسكرية الإسرائيلية لا تستحق حتى إشارة عابرة في وثيقة تدعي العمل؛ مِن أجلِ السلام، وهذا الصمت المقصود حول الجرائم الإسرائيلية ليس سوى تواطؤ جديد يضاف إلى سجل التاريخ الأسود للدعم الأمريكي غير المشروط لكيان الاحتلال، وهو تأكيد على أن هذه الخطة ليست مصممة لتحقيق العدالة بل لفرض الاستسلام تحت شروط مهينة.
الأمر الأكثر خطورة في خطة ترامب هو إعادة إنتاجها لنموذج الوصاية الدولية والانتداب الجديد الذي يكرس التبعية ويقوض السيادة، فالنظام المقترح لإدارة غزة عبر “لجنة تكنوقراطية غير سياسية” و”مجلس سلام” من قادة دوليين هو في حقيقته عودة إلى عهود الاستعمار القديم بثوب جديد، حَيثُ تُسلخ الإدارة الفلسطينية عن إرادتها السياسية وتتحول إلى مُجَـرّد دمية في يد قوى خارجية تتحكم بمصيرها وتقرّر عنها، وهذا النموذج يشبه إلى حَــدّ كبير تجربة “أوسلو 93” الفاشلة التي لم تقدم للفلسطينيين سوى وهم السلطة بدون سيادة، وحكم ذاتي بدون حرية حقيقية، فاتّفاق أوسلو الذي وقعه ياسر عرفات وإسحاق رابين سنة 1993م كان إعلان مبادئ سمح بإنشاء سلطة حكم ذاتي فلسطيني انتقالي، لكنه في الواقع كان بوابة لاستمرار الاحتلال بأشكال أُخرى، حَيثُ احتفظت (إسرائيل) بالسيطرة على الأمن الخارجي والحدود والمجال الجوي والمياه، بينما تحمل الفلسطينيون مسؤولية إدارة الحياة اليومية تحت سطوة الاحتلال.
التاريخ يعيد نفسه ولكن بصورة أكثر خبثًا هذه المرة، فخطة ترامب تذكرنا بما جرى في عام 1982 عندما سلمت حركة “فتح” سلاحها في لبنان تحت ضغوط دولية وإقليمية، وما أعقب ذلك مباشرة من مجزرة مروعة في صبرا وشاتيلا، حَيثُ دخلت ميليشيات لبنانية مدعومة من الجيش الإسرائيلي إلى مخيمي صبرا وشاتيلا بين 16 و18 سبتمبر/أيلول 1982 وارتكبت مجزرة بشرة راح ضحيتها المئات بل الآلاف من المدنيين الفلسطينيين العزل.
لقد كانت تلك المجزرة نتيجة مباشرة لخلق فراغ أمني وضعف في الوجود الفلسطيني المسلح، وهو الدرس الذي يجب أن يتعلمه الفلسطينيون جيِّدًا اليوم، فالتخلي عن السلاح في مواجهة عدو لا يعترف إلا بمنطق القوة هو انتحار سياسي ومقدمة لمزيد من المذابح والتهجير، والمؤمن الحكيم لا يُلدغ من الجحر مرتين.
خطة ترامب لا تحمل أية ضمانات حقيقية لإنهاء الاحتلال أَو تحقيق الحقوق الأَسَاسية للشعب الفلسطيني، فهي تفتقر إلى أي حديث عن حق العودة للاجئين، ولا تتعامل مع قضية القدس كعاصمة للدولة الفلسطينية، وتتجاهل قضية المستوطنات التي تلتهم الأراضي الفلسطينية يوميًّا، بل إنها في تفاصيلها تشكل انتكاسة حتى عن مبادرة أوسلو التي كانت على الأقل تعترف بضرورة الوصول إلى تسوية دائمة للقضايا الأَسَاسية خلال خمس سنوات، بينما خطة ترامب تترك كُـلّ هذه القضايا معلقة في فراغ غير محدّد المعالم، وتقدم للفلسطينيين وعودًا فضفاضة بدون آليات تنفيذ واضحة أَو ضمانات دولية ملزمة.
الرفض الفلسطيني لخطة ترامب ليس مُجَـرّد موقف تكتيكي عابر، بل هو استمرار لإرادَة شعب تتعلم من دروس الماضي وترفض أن تكرّر أخطاءه، فحركة حماس والفصائل الفلسطينية تدرك أن قبول هذه الخطة يعني خسارة الورقة التفاوضية الأخيرة التي تمتلكها، فالمقاومة المسلحة هي الضمان الوحيد لانتزاع الحقوق في مواجهة عدو لا يفهم إلا لغة القوة، وقد أثبتت التجارب أن التنازلات الفلسطينية المجانية لم تزد (إسرائيل) إلا جشعًا ومطالبة بالمزيد، فبعد انسحاب (إسرائيل) من غزة في 2005 لم يُكافأ الفلسطينيون بالاستقلال بل فرض عليهم حصار خانق استمر لسنوات، وتكرّرت الحروب والعدوان عليهم بشكل دوري.
فالرسالة التي يجب أن تصل إلى العالم من رفض خطة ترامب هي أن الشعب الفلسطيني لم يعد يثق بالوعود الأمريكية الزائفة، ولم يعد يؤمن بالوساطات الدولية المنحازة، لقد استنفدت كُـلّ الحلول التي تقدم من طرف واحد وتخدم مصالح طرف واحد، فالعالم الذي يتحدث عن السلام يجب أن يبدأ بالاعتراف بالحقوق الفلسطينية الكاملة وليس بمنح الفلسطينيين فتاتًا من تلك الحقوق، والعالم الذي يدين المقاومة يجب أن يبدأ بإدانة الاحتلال وممارساته القمعية التي تدفع الفلسطينيين إلى اليأس من أي حَـلّ سلمي.
في الختام، إن رفض حركة حماس والفصائل الفلسطينية لخطة ترامب هو قرار استراتيجي صائب يستند إلى دروس التاريخ وإلى واقع القوة الفلسطينية الرافضة للاستسلام، وهو يؤكّـد أن الشعب الفلسطيني قادر على تمييز الأصدقاء من الأعداء، وقادر على رفض الوصاية مهما كانت مظلتها، والثمن الذي قد يدفعه الفلسطينيون؛ بسَببِ هذا الرفض هو ثمن مؤقت في طريق الحرية الطويل، بينما ثمن القبول هو خسارة دائمة للحقوق والكرامة، فكما يقول المثل العربي “ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة”، والسلاح الفلسطيني هو الضمانة الأخيرة لعدم تكرار مآسي صبرا وشاتيلا ومأساة أوسلو، وهو الأمل الوحيد لتحقيق سلام عادل وشامل يحفظ حقوق الأجيال القادمة.