استراتيجية الرد الذكي.. كيف حولت حماس خطة ترامب إلى ورقة ضغط ضد الاحتلال؟!
إب نيوز 6 أكتوبر
فهد شاكر أبوراس
خطوة محسوبة بدقة تهدف إلى تحقيق مكاسب آنية على الأرض مع الحفاظ على الحقوق الوطنية الثابتة للشعب الفلسطيني.
إن موافقة حركة حماس على الدخول في مفاوضات بناءً على خطة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ليست نقطة ضعف ولا تنازلًا عن ثوابت، بل هي خطوة استراتيجية محسوبة بعناية فائقة تهدف إلى تفكيك المخطّط الصهيوني والإمبريالي من الداخل، حَيثُ صدم القبول المفاجئ أجهزة اللوبي الصهيوني في واشنطن التي كانت تنتظر رفضًا قاطعًا من الحركة لتعلن بعدها عن مرحلة جديدة من التصعيد والعقوبات وتوسيع دائرة الحرب.
لقد استطاعت حماس أن تقلب الطاولة على منظّري المؤسّسة الحربية الأمريكية والصهيونية، فبدلًا عن الدخول في مواجهة مباشرة حول بنود الخطة التي صُممت أصلًا لخدمة المصالح الإسرائيلية، قبلت الحركة بالدخول في لعبة المفاوضات لتحقيق مكاسب آنية على الأرض تتمثل في وقف الحرب والإبادة الجماعية التي يتعرض لها أهلنا في غزة، وإطلاق سراح الأسرى، وفتح باب المساعدات الإنسانية، وهي خطوة تضع الاحتلال في مأزق سياسي وأخلاقي حقيقي.
لقد جاء رد حماس إيجابيًّا بصفة عامة، مع إعلان استعدادها للدخول في مفاوضات نهائية حول خطة السلام، وإطلاق سراح جميع الأسرى المتبقين في غزة، ما أربك الخطط الإسرائيلية وجعل ترامب نفسه يعلن عن تفاؤله ويطالب كيان الاحتلال بالوقف الفوري لقصف غزة.
إن خطة ترامب التي أعلن عنها في 29 سبتمبر/أيلول الماضي بجانب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، والمُوَلَّة أَسَاسًا لخدمة الأجندة الصهيونية، تحولت بفعل رد حماس الذكي من أدَاة ضغط على الفلسطينيين إلى فرصة لإبراز عزلة الاحتلال عالميًّا وفضح سرديته الكاذبة، حَيثُ لم يكن أمام ترامب سوى الترحيب برد الحركة والضغط على كيان العدوّ لوقف القصف فورًا.
لقد استوعبت حماس الدرس جيِّدًا؛ فالحرب ليست معركة عسكرية فحسب، بل هي معركة سرديّات وإرادات، والقبول بالمفاوضات لا يعني القبول بشروط الخطة المجحفة، بل يعني تحويل المعركة من مواجهة عسكرية غير متكافئة إلى معركة سياسية ودبلوماسية تستطيع فيها كسر حاجز العزلة الدولية التي فرضها الاحتلال وحلفاؤه على القضية الفلسطينية.
وهذا الفهم العميق لماهية الصراع جعل من رد حماس مفاجأة استراتيجية أربكت حسابات الجميع، فبينما كانت منظمة “آيباك” تتوقع رفضًا وتتهم حماس بأنها دائمًا ما ترد بـ “نعم، ولكن”، كان الرد هذه المرة “نعم” واضحًا يفتح الباب أمام التفاوض، مما دفع بالسيناتور ليندسي غراهام إلى وصف الرد بأنه “مناورة لكسب الوقت” لأنه يدرك أن حماس استطاعت أن تنتزع زمام المبادرة من يد الاحتلال.
لقد نجحت الحركة في تحويل الخطة الأمريكية التي كانت مصممة لتصفية القضية الفلسطينية إلى منصة للتفاوض حول مستقبل القطاع وحقوق الشعب الفلسطيني، مؤكّـدة أن ما ورد في مقترح ترامب من قضايا أُخرى تتعلق بمستقبل قطاع غزة سيتم مناقشتها من خلال إطار وطني فلسطيني شامل ستكون حماس جزءًا منه.
لقد جاء قرار حماس بعد مشاورات معمقة في مؤسّساتها القيادية، ومشاورات واسعة مع القوى والحركات الفلسطينية، ومشاورات مع الوسطاء والأصدقاء، للتوصل إلى موقف مسؤول في التعامل مع خطة ترامب؛ مما يؤكّـد أن القرار جماعي وليس قرارًا انفراديًّا، وأنه يعبر عن إرادَة النظام السياسي الفلسطيني بمكوّناته المختلفة.
وهذا يعكس نضجًا سياسيًّا لدى قيادة الحركة التي أدركت أن معركة الوجود هذه تحتاج إلى كُـلّ أبناء الشعب الفلسطيني، وإلى توحيد الصفوف لمواجهة التحديات المصيرية.
لقد كانت الموافقة على تسليم إدارة قطاع غزة لهيئة فلسطينية من المستقلين (تكنوقراطية) بناءً على التوافق الوطني الفلسطيني واستنادًا إلى الدعم العربي والإسلامي مؤشّرًا على أن حماس تضع الوحدة الوطنية فوق كُـلّ اعتبار، وأنها مستعدة للتضحية بمكاسبها السياسية على مذبح المصالح العليا للشعب الفلسطيني.
كما أن موافقة الحركة على الإفراج عن جميع أسرى الاحتلال أحياءً، وتسليم الجثامين وفق صيغة التبادل الواردة في مقترح ترامب، لم تأتِ من منطلق الضعف، بل من منطلق إنساني وأخلاقي يهدف إلى تخفيف المعاناة عن أبناء الشعب الفلسطيني، وإفساح المجال أمام مفاوضات أوسع حول القضايا الجوهرية.
لقد أظهرت حماس من خلال ردها أنها تدرك تمامًا أن المعركة مع الاحتلال معركة وجود وليست معركة حدود، وأن قبولها بالتفاوض لا يعني التنازل عن الحقوق الوطنية الثابتة للشعب الفلسطيني، بل هو خطوة تكتيكية في معركة استراتيجية طويلة الأمد.
لقد تمكّنت حماس من خلال ردها الذكي على خطة ترامب أن تكشف زيف الادِّعاءات الإسرائيلية والأمريكية حول السلام، فبينما تشترط (إسرائيل) نزع سلاح حماس كشرط مسبق لأية اتّفاقية سلام، أعلنت الحركة بوضوح من خلال قياديها أنها لن تلقي السلاح قبل انتهاء الاحتلال الإسرائيلي للقطاع.
هذا الموقف الواضح والصريح يعكس إدراكًا عميقًا لطبيعة الصراع مع الاحتلال الذي لا يفهم إلا لغة القوة، فالقوة هي الضمانة الوحيدة لتحقيق الحقوق واستعادة الأرض.
لقد استطاعت حماس أن تثبت للعالم أن المقاومة ليست مُجَـرّد رد فعل على الاحتلال، بل هي خيار استراتيجي يصنع الأحداث ويعيد رسم مصير الشعوب، وهي مشروع لحركة التحرّر الوطني العربي، لترجمة قيم العدالة والحرية إلى فعل ملموس، وأكّـدت الحركة من خلال موقفها أنها ترفض أية وصاية خارجية على القرار الفلسطيني، وأن مستقبل الشعب الفلسطيني يُحسم وطنيًّا وليس بقرار حماس وحدها أَو بأية قوة خارجية.
لقد وضعت حماس الاحتلال الإسرائيلي في مأزق حقيقي، فمن ناحية، لا يمكنه رفض التفاوض بعد أن قبلت حماس بالخطة العامة ووافق ترامب عليها، ومن ناحية أُخرى، يدرك الاحتلال أن الدخول في مفاوضات مع حماس يعني الاعتراف الضمني بها كطرف شرعي في المعادلة السياسية، وهو ما كان يرفضه طوال السنوات الماضية.
هذا المأزق تجلّى بوضوح في الارتباك الإسرائيلي الداخلي، حَيثُ بات رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو محاصرًا بين مطرقة الضغوط الأميركية والدولية التي تحثه على التفاعل مع الخطة، وسندان شركائه من أحزاب اليمين القومي والديني الذين هدّدوا بالانسحاب من الحكومة إذَا اتخذ أي خطوة تعد “تنازلًا” لحماس.
لقد كشف رد حماس عن هشاشة التوازن السياسي داخل كَيان الإبادة والاستباحة، وعمق الانقسامات في المجتمع الإسرائيلي، حَيثُ تتطلع المعارضة، ومعها بعض الأصوات داخل الائتلاف، إلى استثمار اللحظة لإبراز هشاشة موقف نتنياهو، والتشكيك بقدرته على إدارة ملف الحرب والمفاوضات معًا، بينما نجحت حماس في تحويل الخطة الأمريكية إلى سلاح ضد الكيان المزروع على أرض فلسطين السليبة.
فبينما كانت الخطة مصممة لخدمة المصالح الإسرائيلية، أصبحت الآن مصدر تهديد للاستقرار السياسي الداخلي في كيان الاحتلال؛ مما يثبت أن الحركة تمتلك رؤية استراتيجية بعيدة المدى تمكّنها من تحويل التحديات إلى فرص، والهزائم التكتيكية إلى انتصارات استراتيجية.
إن موافقة حركة حماس على الدخول في مفاوضات بناءً على خطة ترامب تمثل انتصارًا للعقلانية السياسية وللحكمة الاستراتيجية في إدارة الصراع مع العدوّ الصهيوني، فهي خطوة محسوبة بدقة تهدف إلى تحقيق مكاسب آنية على الأرض مع الحفاظ على الحقوق الوطنية الثابتة للشعب الفلسطيني.
لقد استطاعت حماس من خلال هذه الخطوة أن تنقل المعركة إلى ساحة جديدة، ساحة الدبلوماسية الدولية، حَيثُ يمكنها كسب المزيد من الأنصار والداعمين للقضية الفلسطينية، وكشف زيف الادِّعاءات الإسرائيلية والأمريكية حول السلام.
وأثبتت الحركة مرة أُخرى أنها القائد الحقيقي للشعب الفلسطيني، والقادر على قيادة معركة التحرّر الوطني بكل أبعادها العسكرية والسياسية والدبلوماسية، وهي تضع نصب عينيها تحقيق الهدف النهائي المتمثل في تحرير كامل التراب الفلسطيني وإقامة الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس.