اليمن لا يخشى العواقب بل يفرضها
إب نيوز 11 أكتوبر
محمد نبيل اليوسفي
لم يكن اليمنُ مُجَـرّد موقعٍ جُغرافيٍّ على الخارطةِ، وإنما معنى يتجسّد في الواقع؛ معنى يتحدّى بوعيِ أبنائهِ وإيمانِهم الذي لا يتزعزعُ كُـلَّ منطقِ القوةِ الزائفةِ.
لقد حوّلَ اليمنُ -بحكمةِ قيادتِه وبسالةِ شعبِه- نفسه من دولةٍ تواجه التحدياتِ الداخليةِ إلى حصنٍ منيعٍ للعروبةِ والإسلام، وإلى سيفٍ استراتيجيٍ مصقولٍ، يقطعُ بضرباتهِ المتقنةِ أوصالَ الغطرسةِ الصهيونيةِ، ويكشفُ عوراتِ المشروعِ الإسرائيليِّ المتعربدِ.
وفي لحظةٍ تاريخيةٍ حاسمةٍ، تراجعت فيها كثيرٌ من الأنظمة العربيةِ إلى دوّامةِ التردّد والمهادنةِ، ظهر اليمنُ كجبلٍ شامخٍ، يردُّ على الكيانِ الإسرائيليِّ المحتلّ إسنادًا لغزةَ العزّةِ بضرباتٍ ذكيةٍ ومحكمةٍ، ليسَت عشوائيةً، بل هي معادلاتٌ عسكريةٌ هندستها عقولٌ استراتيجيةٌ، تهزُّ كيانَ الاحتلال من أقصاهُ إلى أقصاهِ، وتعيدُ رسمَ معادلةِ القوةِ في المنطقةِ.
لم تكن تلك الصواريخُ الانشطاريةُ الباليستيةُ والطائراتُ المسيرةُ التي أطلقتها القوّاتُ المسلحةُ اليمنيةُ الباسلةُ مُجَـرّد قذائفٍ تنطلق في السماءِ، وإنما هي رسائلُ مُشفّرةٌ بلُغةِ الدمِ والألمِ، تُقرأ في قلبِ كيان الاحتلال والبنتاغونِ في أمريكا.
إنها بيانٌ عمليٌّ يُعلن، لمن كان له قلبٌ أَو ألقى السمعَ وهو شهيدٌ، أنَّ زمنَ الهيمنةِ الصهيونيةِ قد انتهى، وأنَّ دماءَ الأبرياء في غزةَ ستكون هي النارُ التي تحرقُ مشاريعَ التطبيعِ والتخاذلِ لصهاينةَ.
حيثُ إنّ هذه الضرباتَ المُحكمةَ، التي استهدفت ببراعةٍ استثنائيةٍ النقاطَ الحيويةَ والأعصابَ الحسّاسةَ للكيانِ الغاصبِ، أجبرت الملايينَ من المستوطنينَ على الهروعِ الدائمِ إلى غمادِ الملاجئِ الأرضيةِ حذرَ الموتِ، وهذا ما كشفَ وبوضوحٍ عن هشاشةِ منظومةِ -القبةِ الحديديةِ– والأساطيرِ الأمنيةِ التي أفنى الكيانُ عمرَه وأمواله في بنائها، لتبدو اليوم فجأةً كأنّها قلعةٌ من ورقٍ أمامَ إرادَة صلبةٍ ترفضُ الموتَ بالجمودِ وإنما في ميداني المواجهةِ الحقيقيةِ.
مواجهةٌ لم تكن آثارُها بالضرباتِ المحدودةِ في الميدانِ العسكريِّ فحسب، بل إنّها امتدّت لتُشكّلَ ضغطًا شاملًا خانقًا على كيانِ الاحتلال: حَيثُ ابتدأ دبلوماسيًّا -بإجبار شركاتِ الطيرانِ العالميةِ على تعليقِ رحلاتِها إلى أراضي الاحتلال، وعزله دوليًا- ومن ثم كثّـف ذلك ضغوطًا جيو-اقتصاديةً عميقةً: حَيثُ أصبحت تكلفةُ اعتراض كُـلّ صاروخٍ أَو طائرةٍ مسيرةٍ ينطلقانِ من اليمنِ تُشكّل عبئًا اقتصاديًّا مهلكًا، عبئًا يستنزف الخزينةَ الإسرائيليةَ ويصيب بنيتَها التحتيةَ في انهيار عميقٍ.
أما نفسيًّا واجتماعيًّا: فكانت تلك الضرباتُ القاضيةُ على الجبهةِ الداخليةِ، حَيثُ انهارت ثقةُ المستوطنينَ في مؤسّساتِهم الأمنيةِ، وتبخّرت مشاعرُ الأمنِ الوهميِّ التي راكمتها الحكومةُ الإسرائيليةُ على مدى عقودٍ، ليكتشفوا أنّهم أمام إرادَة لا تُقهرُ ومقاومةٍ صلبةٍ استطاعت التغلبَ على القوىَ التقليديةَ.
مقاومةٌ استطاعت تحويلَ التحدياتِ إلى فرصٍ، والفرصَ إلى ورقةِ ضغطٍ كانت هي الأجدرَ عندَ اتِّخاذها، بسلاحِ الجغرافيا في البحرِ الأحمر كأبرز سلاحٍ تفوقُ قدرَتهُ التكتيكيةَ عن السلاحِ النوويِّ؛ لقد حقّق ذلك الحصارُ اليمنيُّ الذي استهدف السفنَ الإسرائيليةَ وداعميها لتصلَ عددَها إلى 199 سفينةً، ناهيكَ عن اللتينِ تمتّ عليهما السيطرةُ؛ ما أَدَّى إلى شللٍ نصفيٍّ قام بقطعِ شريانِ الاقتصاد الإسرائيليِّ المعتمدِ لتصدير أزمتهِ بدعمٍ غربيٍّ.
حيثُ إنها لم تقتصر اليدُ الطولى لجبهةِ الإسنادِ اليمنيةِ لغزةَ العزّةِ بضرباتِها الجيو-استنزافيةِ إلى بابِ المندبِ والبحرِ الأحمر فقط، بل امتدّت لتشملَ العمقَ الحيويَّ والاستراتيجيَّ لميناءِ أم الرشراشِ الذي تعطّل عن الحركةِ تمامًا؛ ما أَدَّى إلى اندلاع أزمة كبيرةٍ بلغت قدرتَها الماليةَ، كما أكّـد المسؤولون في التقاريرِ هناك أنها وصلت إلى 10.
95 مليارَ شيكلٍ، ووُصُـولًا إلى انخفاض الوارداتِ في أسدودَ بنسبةِ 94 %.
كما أنّ هذه الأضرارَ الجسيمةَ لم تأتِ نتيجةَ عشوائيةٍ هامشيةٍ، بل جاءت -كما ذكرنا سابقًا- ضمنَ دراساتٍ استراتيجيةٍ محكمةٍ ومتكاملةٍ، حَيثُ حملت خلفَها سلسلةً طويلةً هدفت إلى عزلِ الكيانِ الإسرائيليِّ وإلحاقِه الأضرارَ الكبيرةَ والعميقةَ، مما ساهمَ كورقةِ ضغطٍ استراتيجيةٍ فعّالةٍ استطاعت العملَ على إجبار الكيانِ لفكّ الحصارِ عن غزةَ وإدخَال المساعداتِ الإنسانيةِ إلى القطاعِ.
وها هو اليمنُ، بتضحياتِ أبنائِه ووعيِ قيادتِه، يُقدِّمُ للعالمِ أجمعَ درسًا خالدًا في العزّةِ والكرامةِ: أنَّ إرادَة الشعوبِ حين تستمدُّ قوتها من عقيدتِها وعدالةِ قضيتِها، تكون أقوى من كُـلّ ترسانةٍ عسكريةٍ، وأعتى من كُـلّ جيشٍ غازٍ.
لقد أصبح اليمنُ النموذجَ الحيَّ للصمودِ، والرمزَ العالميَّ للتحرّر من قيودِ الخوفِ والهيمنةِ والتبعيةِ، وليعلُو صوتهُ عاليًا: ها نحنُ أبناء اليمنِ..
لا نهابُ أعتى قوى الاستكبار وسنواجهُ دفاعًا عن الدينِ والمقدَّساتِ وغزةَ العزّةِ وكل أحرار هذهِ الأُمَّــة حتى آخر نفسٍ على هذهِ الأرض.