لئلا تبرُد الأرض.. يجب أن توثّقَ الجريمة

إب نيوز 14 أكتوبر

فهد شاكر أبوراس

شكّلت الجرائم الصهيونية في قطاع غزة نموذجًا صارخًا للإبادة الجماعية والهمجية العسكرية، حَيثُ لم تترك آلة الحرب الإسرائيلية شيئًا إلا ودمّـرته، من مستشفيات ومدارس ومساجد ومقومات الحياة الأَسَاسية، في هجوم متعمّد استهدف الإنسان والحجر معًا.

ووفقًا للمعطيات، فَــإنَّ القوات الصهيونية ألقت أكثر من 45 ألف صاروخ وقنبلة على القطاع بوزن إجمالي تجاوز 65 ألف طن، ممّا أَدَّى إلى تدمير 69 ألف وحدة سكنية بشكل كلي و290 ألفًا بشكل جزئي، بالإضافة إلى تدمير 134 مقرًا حكوميًّا و295 جامعة ومدرسة و142 مسجدًا؛ وهي أرقام تُظهر النطاق الواسع للتدمير المنهجي الذي طال البنية التحتية للحياة في قطاع غزة.

ولم تكتفِ هذه الآلة بالدمار العشوائي، بل استخدمت ترسانة متنوّعة من الأسلحة الحديثة والمحرّمة دوليًّا، بعضها جُرّب لأول مرة في غزة تمهيدًا لمعارك أمريكية محتملة في أماكن أُخرى من العالم.

ومن بين هذه الأسلحة قنابل «الدايم» الحديثة التي حوّلت الأطفال والسكان إلى أشلاء، والفسفور الأبيض الذي سبب حروقًا بالغة ومشكلات في الجهاز التنفسي، والذخائر المسمارية، بالإضافة إلى قنابل «إم كيه 84» أَو «المطرقة» التي تزن نحو 900 كيلوغرام والتي يُرجّح أنها استخدمت في مجزرتي مستشفى المعمداني ومخيم جباليا، وكذلك القنبلة الأمريكية «جي بي يو 39» التي قيل إنها “آمنة” لتفجير الهدف من الداخل دون إلحاق أضرار بالجوار، لكنها استخدمت في قصف مخيّم رفح، ناهيك عن صواريخ «حوليت» و«يتيد» ذات القدرات التدميرية الأعلى بنسبة 50 % من الصواريخ السابقة، والمدافع البحرية عيار 76 ملليمتر، وقذائف الهاون الموجّهة بالليزر والمعروفة باسم «اللدغة الفولاذية»، ورشاشات «النقب 7» القادرة على اختراق الجدران السميكة؛ كُـلّ هذا إلى جانب استخدام متطوّر للذكاء الاصطناعي في تحديد الأهداف وتنفيذ الضربات.

وهذا التوثيق الدقيق للجرائم والأسلحة المستخدمة ليس مُجَـرّد سجل تاريخي، بل هو وثيقة اتّهام قوية تُظهر حقيقة الكيان الصهيوني كقوّة احتلال لا تلتزم بأي من المعايير الأخلاقية أَو القانونية الدولية، وتكشف زيف ادِّعاءاته بالدفاع عن نفسه.

كما أن توثيق دول منشأ هذه الأسلحة، سواء الأمريكية بشكل رئيسي أَو الألمانية كما في حالة طرادات «سار 6» التي أنتجتها ألمانيا لجيش الاحتلال، يضع الدول الداعمة للكيان في موقف المتواطئ في جرائم الحرب والإبادة الجماعية في غزة، سواءٌ أكان الدعم سريًّا أَو علنيًّا.

اليوم، وقد بدأت مرحلة ما بعد العدوان، فَــإنَّ مسؤوليتنا الجماعية تفرض علينا الانتقال من مرحلة الدفاع الإعلامي إلى مرحلة الهجوم الوثائقي المنظّم.

لذا ينبغي تشكيل هيئة عليا لتوثيق كُـلّ جرائم العدوان الصهيوني في غزة، تضمّ تحت مظلّتها عدّة لجان متخصّصة:

اللجنة الإعلامية: تقوم بتغطية شاملة للمشهد في غزة عبر فرق تصوير محترفة مزوّدة بأحدث التقنيات، من كاميرات عالية الدقّة وطائرات مسيّرة لأخذ لقطات جوية وبرامج مونتاج متطوّرة، بحيث يتم توثيق كُـلّ شارع وكل حي وكل منزل دمّـر، مع مقابلات مباشرة مع الناجين وأهالي الشهداء والجرحى، وإنتاج أفلام وثائقية عالية الجودة بلغات متعددة تروي الحكاية الكاملة لما حدث.

اللجنة القانونية: تجمع الأدلة والمستندات والشهادات وفق المعايير القانونية الدولية المقبولة في المحاكم، مع إعداد تقارير مفصّلة عن كُـلّ جريمة حرب، وتحديد المسؤولين عنها، والاستعداد لمقاضاتهم في المحاكم الدولية.

هذا بالإضافة إلى اللجنة الطبية التي توثّق الآثار الصحية لاستخدام الأسلحة المحرّمة، وتجمّع تقارير الأطباء عن الإصابات غير المسبوقة، وتوثّق تدمير القطاع الصحي المتعمّد.

اللجنة الهندسية: متخصصة بتحليل آثار القصف وتحديد أنواع الأسلحة المستخدمة من خلال دراسة الحفر والشظايا وأنماط الدمار، مع توثيق تدمير البنى التحتية الحيوية من طرق وجسور وشبكات مياه وكهرباء.

وكذلك اللجنة الاجتماعية التي توثّق الأسر المنقرضة كليًّا، والخسائر البشرية، وحسرات الأهالي، وآثار الحرب النفسية على الناجين، خَاصَّة الأطفال والنساء.

وآلية التشكيل هذه يجب أن تبدأ بعقد مؤتمر طارئ تجتمع فيه المؤسّسات الإعلامية العربية والإسلامية الكبرى، والمنظمات الحقوقية الدولية المستقلّة، لتأسيس «الهيئة الدولية لتوثيق جرائم الكيان الصهيوني» كهيئة تنسيقية عليا؛ تلي ذلك عملية تمويل عربي وإسلامي مشترك من خلال صندوق خاص تدعمه الحكومات والقطاع الخاص والمتبرّعون، مع تجهيز الفرق الميدانية وتدريبها على أعلى مستوى، وتأمين كُـلّ الاحتياجات التقنية والفنية والإدارية.

كما يجب تنسيق دخول الفرق إلى غزة عبر المعابر المختلفة، مع تأمين الحماية والمساندة اللازمتين لهم، وتصميم خطة إعلامية شاملة تشمل بث المواد المصورة عبر فضائيات عربية وعالمية، وإنشاء منصّات رقمية متعددة اللغات، وإصدار تقارير دورية، وعقد مؤتمرات صحفية دولية، وإنتاج سلسلة أفلام وثائقية تُذاع في أبرز المهرجانات السينمائية العالمية.

إن التوثيق الدقيق والشامل هو استمرار للمقاومة بوسائل أُخرى، وهو المعركة التالية التي يجب أن نخوضها بكل إصرار وإتقان؛ فغزة التي قدّمت كُـلّ شيء تستحق أن نقدّم لها كُـلّ جهد في توثيق جرائم المحتلّ وتعريته أمام العالم.

كما أن هذه اللجان ستمثّل درعًا واقيًا لغزة المستقبل، وذاكرةً حية للأجيال القادمة، وسجلًا تاريخيًّا لا يمحى يضمن ألا تذهب تضحيات الغزيين سدى.

الوقت ليس في صالحنا؛ فالكيان الصهيوني وحلفاؤه يعملون ليل نهار لطمس الأدلة وتزوير الحقائق، لذا يجب أن نتحَرّك بسرعة وحسم قبل أن تبرد الأرض وتتبدّد الأدلة، فكل يوم يمرّ هو خسارة لأدلة جديدة، وطمس لمعالم جريمة، وتقادم في الذاكرة الجماعية للعالم.

التاريخ ينظر إلينا، والأجيال القادمة ستسألنا: ماذا فعلتم حين توقّفت المدافع؟!

هل تركتم الساحة للرواية الصهيونية؟!

أم أنّكم دفعتم بالحقيقة كاملة إلى ضمير العالم؟!

You might also like