الوجود الأمريكي في دمشق.. استراتيجية تفكيك السيادة وإدارة الفوضى
إب نيوز 6 نوفمبر
فهد شاكر أبوراس
بين أزقة دمشق العتيقة، حَيثُ تحكي حجارة الشوارع عن آلاف السنين من الصمود والكرامة، يُطلّ اليوم مشهدٌ يناقض هذا التاريخ العريق: وجودٌ عسكري أمريكي ينتصب في قلب العاصمة، مستندًا إلى ذريعةٍ هشّةٍ هي “مراقبة اتّفاق أمني بالٍ بين سوريا وإسرائيل”.
هذا الوجود ليس حدثًا عابرًا، ولا خطأً تكتيكيًّا، بل هو تتويجٌ متعمّدٌ لاستراتيجيةٍ طويلة الأمد تهدف إلى تفكيك سيادة الدولة السورية، وتحويلها إلى كيانٍ هشٍّ تُدار تفاصيله من خارج حدوده.
إنه الوجه الأكثر وقاحةً لمشروع “سلطة الأمر الواقع” الذي فُرض على الشعب السوري بقوة الحديد والنار، وهو مشروعٌ لا يمكن فهمه بمعزلٍ عن الدعم الأمريكي المباشر -وغير المباشر- لسلطة “الجولاني”، التي تشكّل أدَاة وظيفيةً في هذه المعادلة المعقّدة.
المسألة ليست مُجَـرّد وجودٍ عسكري محدود، بل عملية اختراق متعددة المستويات تهدف إلى تحقيق هدفين استراتيجيين رئيسيين، يرتبطان ارتباطا عضويًّا بديناميكيات الصراع الإقليمي الأوسع.
الهدف الأول: تفكيك القرار السيادي
يتمثّل الهدف الأول في التأثير المباشر والشامل على القرار السوري -بمجالاته السياسية، والأمنية، والاقتصادية.-؛ فوجود القوات الأمريكية في قلب دمشق، وبالقرب من مراكز القيادة الحيوية، ليس مُجَـرّد استعراض للقوة، بل آلية ضغطٍ مُستمرّة وفعّالة.
إنه يُرسِل رسالة واضحة: أي قرار سيادي -سواء كان متعلّقًا بإعادة الإعمار، أَو بالتوجّـه الاقتصادي، أَو حتى بالتحالفات الإقليمية- يجب أن يمرّ عبر مرشحات المصلحة الأمريكية.
هكذا يخلق واقعًا يتجاوز فكرة “الدولة العميقة” إلى ما يشبه “الدولة المحتلّة جزئيًّا”، حَيثُ تتحكّم أيادٍ خارجية بخيوط اللعبة من خلف الستار.
وهذا النفوذ لا يقتصر على الشأن السياسي فحسب، بل يمتدّ إلى القرار الأمني، حَيثُ يشكّل الوجود الأمريكي درعًا وقائيًّا للكيانات الوظيفية المتحالفة معه، ويُقيّد بشكل كبير من حركة القوى السورية الوطنية، مما يجعل أي محاولةٍ لاستعادة السيادة الكاملة عملًا محفوفًا بمخاطر المواجهة المباشرة.
إنها صورةٌ معاصرة من “الاستعمار الجيوسياسي”، لا تحتاج إلى إعلان حكمٍ مباشر؛ لأَنَّها تحقّق الأهداف نفسها عبر الهيمنة على عملية اتِّخاذ القرار ذاتها.
الهدف الثاني: إدارة التناقضات الإقليمية
أما الهدف الثاني، الأكثر تعقيدًا، فيكمن في تحويل الوجود الأمريكي إلى نقطة فصلٍ استراتيجية بين نفوذين إقليميين متصارعين ومتحالفين في آنٍ واحد: تركيا و”إسرائيل”.
ففي الوقت الذي تتصارع فيه القوى الإقليمية على النفوذ في الجغرافيا السورية، يأتي الوجود الأمريكي ليرسم خطوطًا حمراء غير مرئية على الأرض.
من جهة، يشكّل هذا الوجود حاجزًا أمام التمدّد التركي جنوبًا نحو العمق السوري، ويُحدّ من طموحات أنقرة في إنشاء “منطقة آمنة” قد تتعارض مع المصالح الإسرائيلية على المدى الطويل.
ومن جهة أُخرى، يعمل كدرع وقائي لـ (إسرائيل)، لا فقط من خلال “مراقبة” الحدود مع الجولان المحتلّ، بل بمنع أي تواصل جغرافي محتمل بين القوى المناوئة لـ(إسرائيل) في الجنوب والوسط، وأي قوة إقليمية أُخرى في الشمال.
إنه عازلٌ جيوسياسيٌّ ذكي، يضمن استمرار حالة التمزّق السوري التي تخدم “الأمن الإسرائيلي المزعوم”، وفي الوقت ذاته يمنع أي طرف إقليمي من تحقيق نصر استراتيجي كاسح قد يغيّر موازين القوى -سواء لصالح محور المقاومة أَو حتى لصالح تركيا ذات التوجّـهات الإسلامية الزائفة.
بمعنى آخر، هذا الوجود ليس وسيلة لإخماد الفوضى، بل أدَاة لـ”إدارتها” بذكاء، لضمان بقاء سوريا ساحةً للصراع المُسيطَر عليه، لا أن تتحوّل إلى ساحةٍ للتوحّد أَو التحوّل الجيوسياسي الذي يهدّد المشروعين الأمريكي والإسرائيلي معًا.
تأثيره على المقاومة
ولا ينفصل هذا المشهد بطبيعة الحال عن تأثيراته المباشرة وغير المباشرة على حركات المقاومة في المنطقة.
فـسوريا، بموقعها الاستراتيجي وتاريخها، كانت دومًا شريانًا حيويًّا للمقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي. والوجود الأمريكي المباشر يشلّ هذا الدور تمامًا: فهو يقطع طرق الإمدَاد المحتملة، ويعطّل أي محاولةٍ لاستعادة سوريا لدورها الريادي في دعم المقاومة، بل ويحوّلها من حاضنةٍ للمقاومة إلى ساحةٍ محتملةٍ لمواجهة غير متكافئة تخضع لشروط العدوّ.
كما يخلق هذا التواجد بيئةً خاضعة للمراقبة المُستمرّة، حَيثُ يصبح أي تحَرّك للمقاومة عُرضةً للاستهداف أَو الاعتراض، مما يُضعف قدرتها على المناورة والمبادرة.
خاتمة: معركة إرادَة لا معركة أرض فقط
المشهد في دمشق اليوم هو تجسيدٌ حيٌّ لهيمنة القوة الخشنة والناعمة معًا، حَيثُ يُستخدم الوجود العسكري المباشر كرافعةٍ لتحقيق أهداف جيوسياسية أوسع.
إنه استمرار للعقلية الاستعمارية التي تعاملت مع المنطقة كقطع شطرنج، لكن بأدوات أكثر تطورًا ودهاءً.
مواجهة هذا المشروع لا تحتاج فقط إلى البندقية، بل إلى وعيٍ استراتيجيٍّ عميقٍ يفضح هذه الألاعيب، وإلى إرادَة وطنيةٍ وإقليميةٍ موحّدةٍ قادرةٍ على تحويل هذه النقاط الأمريكية “القوية” إلى نقاط ضعف -من خلال استثمار التناقضات الدولية والإقليمية، وإعادة بناء النسيج الاجتماعي والسياسي السوري على أسس وطنية حقيقية.
فـدمشق، التي صمدت أمام أعتى الإمبراطوريات عبر التاريخ، قادرةٌ على امتصاص هذه الهزّة الاستعمارية المعاصرة.
لكن ذلك مرهونٌ بقدرة السوريين وقوى المقاومة على تحويل معركة الأرض إلى معركة إرادَة، حَيثُ تنكسر إرادَة المحتلّ ومشاريعه التفتيتية أمام إرادَة شعبٍ رفض دومًا أن يكون قطعةً في متحف الإمبراطوريات البائدة.