من “المخطّط الأمريكي” إلى “القوة الدولية”: هندسة التبعية تحت شعارات الشرعية
إب نيوز ١١ نوفمبر
فهد شاكر أبوراس
لا تزال غزة، في خضم دمارها وحصارها، ساحةً لاختبارات جيوسياسية لا تنتهي؛ ووسط هذا الضباب الدخاني المليء بالتناقضات والحسابات المتقاطعة، لم تكن زيارة جاريد كوشنر وستيف ويتكوف إلى “تل أبيب” مُجَـرّد لقاء دبلوماسي روتيني، بل إشارة واضحة إلى أن الولايات المتحدة تُعدّ العُدّة لمرحلة جديدة، قد تكون أكثر ذكاءً من سابقاتها، لكنها ليست أقل استعمارا في جوهرها.
ما يُطرح اليوم تحت عنوان “قوة دولية” لإدارة ما بعد الحرب في غزة ليس تحوّلًا جذريًّا في الموقف الأمريكي، بل هو تجلٍّ جديد لمخطّط قديم، تحدثت عنه أدبيات السبعينيات بوضوح: إعادة هندسة المنطقة لصالح تحالف هيمنة غربي–صهيوني، مع إشراك مُقنّع لقوى إقليمية تُمنح أدوارًا ثانوية لامتصاص غضبها أَو استثمار طموحاتها.
اللافت أن (إسرائيل)، التي لا تكفّ عن تكرار عبارات “الأمن الوجودي”، ترفض بعنادٍ حضور أي جندي تركي في غزة.
وليس من الصعب فهم هذا الرفض: فالاحتلال لا يريد شريكًا في إدارة سجن غزة، لا سِـيَّـما إن كان هذا الشريك قوةً إقليمية مثل تركيا، تملك رؤيةً مضادة جزئيًّا، وشبكة علاقات تهدّد الاحتكار الأمني الإسرائيلي.
لكن المفارقة تكمن في أن واشنطن، التي تنظر إلى أنقرة كأدَاة موازنة ضد إيران وروسيا، لا يمكنها تجاهل طموح تركيا بالكامل.
ومن هنا تنشأ المعضلة الاستراتيجية التي يُطلب من أمريكا أن تحلّها – لا كحكم عادل، بل كمهندس ذكي يتقن لعبة التوازن بين حليفَين لا يثق أحدهما بالآخر.
أرى أن الدور التركي، رغم تناقضاته، لا يزال جزءًا من الحسابات الأمريكية.
فالإدارة الأمريكية لا تمانع أن ترى تركيا تلعب دور “الضامن” أَو “الوسيط”، طالما أن هذا الدور لا يُخلّ بالبنية الأمنية التي تُبقي كيان الاحتلال في موقع المسيطر النهائي.
بل إن واشنطن قد ترى في أنقرة ورقةً فعّالة لتحقيق نوع من “الاستقرار المُدار”، الذي لا يهدّد الهيمنة، بل يُعيد ترتيبها ببراعة تحت مسمّيات دولية مقبولة.
وهنا تكمن حيلة “القوة الدولية” المقترحة: فبدلًا عن فرض الحلّ من طرف واحد، يُقدّم اليوم تحت غطاء الأمم المتحدة أَو ائتلاف دولي، ليكون في الظاهر ضمانة للسلم، وفي الباطن أدَاة لتقنين التقسيم، وتثبيت الواقع الجديد، وحرمان الفلسطينيين من حقهم في تقرير المصير تحت ذريعة “الحوكمة الدولية”.
لستُ أبالغ إذَا قلت إننا نشهد محاولة ذكية لتحويل الاحتلال إلى إدارة دولية، والغطرسة إلى شرعية متفق عليها، والهيمنة إلى شراكة مزيفة.
فالمخطّط الأمريكي لم يتغيّر، بل تكيّف.
لم يعد يُعلن عن نفسه بصراحة كما في صفقة القرن، بل يرتدي أقنعة متعددة: قوة دولية، مفاوضات أمنية، ترتيبات إنسانية..
لكن جوهره واحد: إعادة إنتاج النظام الإقليمي بحيث يبقى الجميع، من تل أبيب إلى أنقرة، تحت المظلة الأمريكية، متعاونين وإن كرهوا، مرتبطين وإن اختلفوا.
وفي النهاية، لا ينبغي أن ننخدع بالشكليات.
فالقوة الدولية – مهما اتسعت مشاركتها – لن تكون حيادية، ولن تكون بديلًا عن الاحتلال، بل ستكون امتدادا له في ثوب جديد.
والمخرج الحقيقي لا يكمن في التفاوض على شكل القوة أَو جنسيّة جنودها، بل في كسر هذه الدورة المفرغة من إعادة الإنتاج الأمريكي للواقع العربي، والبدء بمسار يضع مصلحة الشعوب، لا مصالح القوى العظمى، في قلب المشهد.