كاتب فلسطيني: من صنعاء إلى القدس: اليمن يرسم معادلات الردع والنار في البحر الأحمر
إب نيوز ١٧ مايو
في زمن التواطؤ الدولي، والتراجع الأخلاقي للمجتمع الغربي، ظهرت قوى معدودة فقط على خارطة المقاومة قررت أن تقف بوجه الطوفان. وبينما كانت الأنظمة العربية والإسلامية تتسابق نحو التسوية أو التطبيع مع كيان الاحتلال، خرجت صنعاء المقاومة لتقول للعالم إن المعادلة قد تغيّرت، وإن البحر الأحمر لن يكون ممرًا آمنًا لمن يدعم الإبادة في غزة.
ما قامت به قوات أنصار الله الحوثيين ليس مجرد مناورة تكتيكية في مضيق بحري، بل هو تحوّل جذري في قواعد الردع الإقليمي والدولي، ورسالة استراتيجية تقول إن زمن استفراد أمريكا وإسرائيل بالممرات الحيوية قد ولّى، وإن الكلمة اليوم لمَن يمتلك الإرادة لا لحاملات الطائرات.
في عمق البحر الأحمر، وتحديدًا في المناطق الحيوية لملاحة التجارة الدولية، تمكّن الحوثيون من فرض قاعدة اشتباك لم تكن في حسبان أكثر العقول الغربية تشاؤمًا. فخلال أشهر قليلة، تحوّلت سفن التحالف الداعم لإسرائيل من أدوات ضغط إلى أهداف محتملة في أي لحظة.
لم يكن هذا التحول اعتباطيًا. بل جاء نتيجة لرؤية دقيقة تبنّاها أنصار الله، تدمج بين عقيدتهم الثورية والتكتيك العسكري الفعّال، واضعةً أساسًا جديدًا لما يمكن تسميته بـ”الردع البحري الشعبي”، أي القدرة على منع العدو من الحركة بحرية ليس عبر التفوق الكلاسيكي، بل من خلال الإصرار والإرادة والتموضع الجغرافي الذكي.
لقد أصبحت قوات أنصار الله طرفًا لا يمكن تجاوزه في أي معادلة بحرية تمر من باب المندب. وهذا الردع الجديد لا يقوم فقط على الصواريخ والطائرات المسيّرة، بل على وضوح في القرار السياسي واستعداد لتحمل تبعات المواجهة مهما بلغت.
حين بدأت السفن الأمريكية تتعرض للاستهداف، كان التحالف الغربي يعتقد أن الأمر مجرد عمليات رمزية قابلة للاحتواء. لكن تكرار الضربات، دقتها، واتساع نطاقها، قلب المشهد رأسًا على عقب. باتت واشنطن في موقع الدفاع، لا الهجوم. حتى عندما قررت واشنطن شن هجمات جوية على اليمن ازدادت وتيرة هجمات أنصار الله دقة وكثافة ما دفع الولايات المتحدة للتسليم بإرادة هذا الشعب القوية التي لا تتراجع أبداً عن مبادئ الأخلاق والدين وغزة المقاومة.
وفي مفارقة مذهلة، وجدت الولايات المتحدة نفسها مضطرة إلى الدخول في مفاوضات غير مباشرة مع صنعاء، في محاولة لوقف استهداف مصالحها. وقد حصلت على هدنة بحرية مؤقتة، لكن بثمن واضح وهو القبول بوقف مشروط لا يشمل إسرائيل.
وهنا تتجلى عبقرية المعادلة التي صاغها أنصار الله العدو الذي يسكت عن إبادة شعب غزة، لا يمكن أن يُمنح الحصانة في البحر. وإذا كانت واشنطن تريد تهدئة في البحر الأحمر، فعليها أن تعترف، ولو ضمنيًا، بأن المقاومة اليمنية باتت لاعبًا لا يمكن تجاهله، وأن سيطرتها على المفصل البحري الاستراتيجي صارت واقعًا لا وهمًا.
ما يجعل موقف الحوثيين مختلفًا ليس فقط قدراتهم العسكرية، بل مرجعيتهم الأخلاقية والدينية الصلبة. فهم لم يتحركوا لحماية حدودهم فقط، ولا سعوا لمكاسب تفاوضية داخلية، بل ربطوا بشكل واضح لا لبس فيه بين تحركهم العسكري وبين الواجب الديني في نصرة غزة.
في وقت صمتت فيه الجيوش، وخرست فيه الأنظمة، خرجت صنعاء لتعلن: “لن تمر سفن الداعمين للمجزرة إلا على أجسادنا”. وهكذا ارتقى الفعل العسكري من مستوى الرد السياسي إلى مستوى الفريضة الأخلاقية، مما أكسبه مشروعية واسعة في الداخل اليمني والعالم العربي والإسلامي.
لقد تحوّلت العمليات في البحر الأحمر إلى شكل من أشكال الصدقة الجارية للشهداء في غزة، وصرخة بحرية في وجه مجتمع دولي اختار أن يدفن رأسه في الرمال بينما الأطفال يُقصفون في مدارس الأونروا.
لعلّ أكثر ما يزعج صُنّاع القرار في تل أبيب اليوم ليس فقط دقة الصواريخ الفرط صوتية التي تضرب أهدافًا إسرائيلية انطلاقًا من اليمن، بل شعورهم العميق بأن أميركا بدأت تتملّص من حماية إسرائيل بشكل تدريجي.
فلأول مرة منذ عقود، تُهاجَم إسرائيل من جبهة بعيدة، بينما واشنطن تسعى للتهدئة في الجبهة الأقرب إليها. هذه أول شرارة لانفصال استراتيجي فعلي بين الحليفين، فتحه أنصار الله بقوة الردع، وثبّتوه بوعي سياسي عميق، يؤمن أن المواجهة مع العدو لا يجب أن تتقيّد بأجندات الحلفاء المترددين.
هذا الانفصال لا يعني بالضرورة نهاية العلاقة الأمريكية الإسرائيلية، لكنه يعني بداية اختلال في المركزية الأمنية التي كانت تل أبيب تتمتع بها. ومن اليمن، حيث لا قواعد أمريكية ولا دعم مباشر، جاءت الضربة التي زلزلت شعور إسرائيل بالأمان المطلق.
يدرك الحوثيون أن الردع العسكري، مهما كان فعّالًا، لا يمكن أن يصمد دون جبهة وعي صلبة. ولهذا، فإن المرحلة القادمة ستشهد دخول العدو إلى ساحة الحرب النفسية، عبر الإعلام، والإشاعات، والاختراقات السردية.
سيسعى الأمريكيون وحلفاؤهم إلى تشويه صورة أنصار الله، اتهامهم بالتهور، أو تصويرهم كمخربين لا كمقاومين. وستُستخدم أدوات التواصل الاجتماعي كحقول ألغام لتفكيك الجبهة الداخلية.
لكن من يعرف طبيعة هذه الحركة، وارتباطها العميق بالهوية اليمنية والعقيدة الدينية، يدرك أن محاولة تفكيكها من الداخل ستكون أصعب من مواجهتها في البحر.
لم تعد المعركة من أجل غزة محصورة في ساحلها أو سمائها. لقد امتدت خطوط النار لتشمل البحر، وربما غدًا البر، وتحوّل البحر الأحمر من ممر تجاري إلى خط مواجهة مقاوم، يشهر في وجه الطغيان سيفًا من نار وصوتًا من إيمان.
أنصار الله لم يسعوا إلى البطولة المجانية، بل اختاروا طريقًا واضحًا: الوفاء لفلسطين، وردع العدو، وفرض العدالة في زمن الخيانة السياسية. ولهذا، فإن ما تحقق في البحر الأحمر ليس نصرًا لليمن فقط، بل فاتحة طريق للتحرير الكامل، من صنعاء إلى القدس.
*د. حامد أبو العز
باحث السياسة العامة والفلسفة السياسية وكاتب فلسطيني