من خُدعة الجسر البحري إلى تغطية العدوان: الاستراتيجية الأمريكية لامتصاص غضب العالم
إب نيوز ٣ أكتوبر
فهد شاكر أبوراس
منذ اللحظات الأولى لبَدء العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة بغطائه الأمريكي، اعتمدت أمريكا على أساليب الالتفاف كلما علا الصوت العالمي ضد العدوان والإبادة في غزة.
واشنطن لا تتحَرّك بدافع المبادئ أَو القيم، بل عندما تتأثر سُمعتها وتتضرر مصالحها.
وعندما يرتفع السخط الشعبي في مختلف البلدان وتتأثر صورة أمريكا، تخشى واشنطن من أن يتحول هذا السخط إلى مواقف عملية، فتقوم بالالتفاف عبر خطوات توحي بأنها حلول لمعاناة الشعب الفلسطيني، لكنها في الحقيقة مسرحيات هزيلة تهدف إلى تخدير المشاعر وامتصاص الغضب.
إنها حلول وهمية، مصمَّمة لإسكات الضمير العالمي، لا لمعالجة المعاناة الحقيقية لأهل غزة.
لقد تجلّى هذا المنهج المخادع بوضوح في قضية “الجسر البحري”، الذي قُدِّم تحت عنوان إيصال المساعدات الإنسانية.
فقد كان يخدم أغراضًا أمريكية من جهة، ومن جهة أُخرى وسيلةً للتظاهر بالحرص على إيصال المساعدات.
لكن الناس تبيّنوا لاحقًا أنه لم يكن سوى عملية خداع كبيرة، ومحاولة فاضحة لتلبيس الحقائق.
فالجسر البحري ليس سوى أدَاة دعائية لا تحمل أية جدوى حقيقية، بل كان شكلًا من أشكال الاستهداف الواضح والدنيء للشعب الفلسطيني.
لقد تحوّلت المعاناة الإنسانية في غزة إلى أدَاة في يد القوة الأمريكية لتمرير أجنداتها.
هذه الممارسات ليست أخطاء عابرة، بل جزء من استراتيجية متعمدة.
فالخطوات الأمريكية عادةً ما تكون شكلًا من أشكال الاستهداف المباشر، ومحاولة لقلب الحقائق وتزييف الوعي.
فبدلًا من أن تُحاسب أمريكا العدوان الإسرائيلي على جرائمه في غزة ولبنان واليمن، تُقدّم نفسها كطرف محايد، أَو حتى كـ”مساعد”، بينما هي، في الصميم، شريك أَسَاسي في العدوان، تدعمه بالمال والسلاح والدبلوماسية.
إن التفاف أمريكا على الصوت العالمي هو اعتراف ضمني بقوة هذا الصوت وشرعيته، لكنه أَيْـضًا دليل على غياب الجدية في معالجة الأسباب الجذرية للأزمة.
فالأمريكي يريد حماية سمعة (إسرائيل) ومنع عزلها دوليًّا، دون أن يطلب منها وقف العدوان أَو إنهاء الاحتلال.
إنها معادلة خادعة تسعى إلى إنقاذ القاتل من العقوبة، فيما الضحية تدفع الثمن مرتين: مرةً من القصف، وأُخرى من الخداع باسم “المساعدات”.
لقد أصبحت حِيَل أمريكا مكشوفة للجميع.
فالشعوب لم تَعُد تنخدع بمسرحيات الإغاثة، وهي ترى أن ما يُسمى بـ”المساعدات الأمريكية” ليس إلا غطاءً لتدخلات سياسية وعسكرية، أَو وسيلة لشراء الوقت والذمم لصالح العدوان المُستمرّ.
صمود الشعب الفلسطيني وتضحياته جعلا من المستحيل تجاهل حقّه، لكن الأمريكي يحاول تفريغ هذا الصمود من مضمونه السياسي والعقائدي، وتحويله إلى “حالة إنسانية” فقط، ليختزل نضال شعب بأكمله في مُجَـرّد حاجة إلى الطعام والدواء.
وخدعة الجسر البحري مثال ساطع على هذا النهج: فبدلًا من فتح المعابر ورفع الحصار، يقدّم الأمريكي مشاريع هامشية ومكلفة لا تحقّق الفائدة المرجوّة، بل قد تتحوّل إلى أدوات مراقبة وتحكُّم.
نحن أمام آلة دعائية أمريكية ضخمة، تعمل ليل نهار لتلميع صورة العدوان، ولو على حساب الحقيقة والدماء.
يريدون إقناع العالم أنهم يقدّمون حلولًا، بينما هم في الواقع يكرّسون الاحتلال ويعمّقون الأزمة.
إن الالتفاف على الصوت العالمي صفعة للضمير الإنساني.
وبدلًا من الاستجابة لمطالب وقف العدوان، تختار واشنطن الخداع والتضليل، معتقدةً أنها قادرة على صرف الأنظار عن الجرائم اليومية بحق الأطفال والنساء في غزة.
استمرار هذا النهج الأمريكي لن يؤدي إلا إلى المزيد من الكراهية والعنف.
فالشعوب التي ترى دماءها تُسفك وأراضيها تُنهب، بينما القوى العظمى تتلاعب بحقوقها، لن تظل صامتة إلى الأبد.
وسيأتي اليوم الذي تنقلب فيه كُـلّ حسابات الالتفاف والخداع على من صنعها.
لقد حان الوقت لأن يعي العالم حقيقة الدور الأمريكي في تغذية الصراع وإطالة أمد المعاناة.
فما يحدث في فلسطين ليس مُجَـرّد نزاع بين طرفين، بل اختبار حقيقي لإرادَة المجتمع الدولي، ولصدق المبادئ التي ترفعها الدول -وفي مقدمتها الولايات المتحدة- التي تُثبت كُـلّ يوم أنها تقف في الجانب الخاطئ من التاريخ.