من النظرية إلى الميدان: البناء الاستراتيجي المتين لمواجهة التحديات في اليمن
إب نيوز 12 أكتوبر
فهد شاكر أبوراس
إن البناء النظري المتين لأية استراتيجية عسكرية هو المدخلُ الحقيقي لفك شفرات الصراع وتوقُّع تحَرّكات الأعداء.
وفي سياق اليمن، الذي خاض ويخوض اليوم معركة وجودية مصيرية، يصبح فهم هذه الأسس النظرية بمثابة البوصلة نحو آليات المواجهة وتطوير أدواتها.
فالاستراتيجية العسكرية – التي هي تسمية جماعية تُطلَقُ على عملية التخطيط لخوض الحروب – لا تقتصر على فن استخدام القوات في الميدان فحسب، بل تتعدّاه إلى اختيار اللحظة الحاسمة لإنزال الضربة القاضية بالعدوّ.
وهي فنٌّ يتطلب فهمًا عميقًا للزمان والمكان والإمْكَانات.
لقد تطورت هذه المفاهيم عبر العصور من استراتيجيات مباشرة تركز على المواجهة العلنية، إلى استراتيجيات معقدة تعتمد على المباغتة، والتخويف، والتخريب، والإرهاق، والإبادة؛ مما يجعل تشريح الاستراتيجية المعادية ضرورةً قصوى.
ويجب أن ينطلق هذا التشريح من فهم المستويات الثلاثة للحرب:
المستوى الاستراتيجي الأعلى، الذي يحدّد الأهداف السياسية الشاملة.
المستوى التشغيلي، الذي يدير الحملات الكبرى ويربط الاستراتيجية بالتكتيك.
المستوى التكتيكي، الذي ينفذ العمليات الميدانية المباشرة.
ولكي يتمكّن اليمن من اختراق هذه المستويات، عليه أن يتمتع بـ«الإدراك الاستراتيجي» المتقدم؛ ذلك الإدراك غير العادي الذي يعني القدرة على استشراف اتّجاهات الأحداث والتطورات، وإعادة بناء مرجعيات العمل على المستوى الاستراتيجي.
ويرتبط هذا الإدراك بالتفكير الإبداعي وعملية اتِّخاذ القرار الصعب في ظل ظروف غير مؤكّـدة.
وتطوير هذا الإدراك يُعدّ الخطوة الأولى نحو بناء استراتيجية دفاعية فاعلة، قادرة على مواجهة المخطّط المعادي الذي يستهدف اليمن في صميم وجوده.
فالمستوى الاستراتيجي الشامل للعدو يهدف إلى عزل اليمن دوليًّا عبر تشويه سُمعته، مستخدمًا حربًا نفسية وإعلامية مكثّـفة، وحصارًا دوليًّا، ودبلوماسية ضاغطة؛ بهَدفِ ضرب الحاضنة الشعبيّة العالمية لليمن، ونزع الشرعية عن موقفه المساند لفلسطين، وإجباره على التراجع عن سياساته المبدئية.
أما على المستوى التشغيلي، فيسعى العدوّ إلى صُنع ذرائع لاستهداف اليمن من خلال مزاعم القرصنة وشحنات السلاح المزوَّرة، مستخدمًا عمليات استخباراتية وأجهزة محلية موالية له لخلق وقائع مفبركة؛ بهَدفِ تغيير واقع ميزان القوى في المنطقة لصالح التحالف المعادي، وإضعاف القدرات الدفاعية لليمن.
وفي المستوى التكتيكي، تنفّذ الأدوات المحلية في جغرافيا الوطن المحتلّة عمليات قرصنة واستهداف للملاحة وتنسبها زورًا إلى القوات المسلحة في صنعاء؛ بهَدفِ إرهاق القوات المسلحة اليمنية وشغلها بمواجهات جانبية، وتدمير الاقتصاد عبر عمليات عسكرية مباشرة وغير مباشرة، وحرب اقتصادية، واستخدام أسلحة حديثة مثل الطائرات المسيرة والصواريخ، ضمن ما يُسمّى «القدرات الدقيقة الشاملة».
إن هذا المخطّط المتكامل يمكن فهمه من خلال النماذج الاستراتيجية الكلاسيكية، مثل نموذج الجنرال «بوفر»، الذي يركّز على الاستخدام المحدود للقوة والتهديد المباشر من قِبل قوى ذات إمْكَانات كبيرة لتحقيق أهداف حيوية ضد طرف أقل منها إمْكَانات.
كما أنه يحملُ عناصرَ من «الاستراتيجية الدفاعية الفاعلة» التي تدمج بين التدابير الوقائية والهجومية.
ولمواجهة هذا الخطر المتعدد المستويات، يجب على اليمن أن يتبّنى استراتيجية مواجهة متكاملة تبدأ بتعزيز «الإدراك الاستراتيجي» والوعي المبكر، من خلال تطوير نظام استخباراتي وتحليلي قادر على استشراف اتّجاهات الأحداث وكشف المحاولات المبكرة لصنع الذرائع.
وينبغي التركيز على جمع كمٍّ ونوعٍ كافٍ من المعطيات والمعلومات الضرورية من مصادر متنوعة، لضمان المصداقية والموضوعية ومقاومة محاولات التضليل.
كما يصبح اعتماد استراتيجية «الدبلوماسية الهجومية» ضرورةً ملحةً لفضح المخطّط بشكل استباقي على جميع المنصات الدولية، باستخدام أدلة دامغة؛ مما يشكّل تطبيقًا للنموذج الاستراتيجي القائم على الضغط غير المباشر من خلال الخطاب السياسي والدبلوماسي، لعرقلة المخطّط المعادي وكسب المعركة الإعلامية العالمية.
ولا يمكن إغفال أهميّة بناء تحالفات استراتيجية ذكية كوسيلة ناجعة لتحييد المواجهات المباشرة ذات الكلفة المادية والبشرية العالية، من خلال العمل على بناء تحالفات إقليمية ودولية قائمة على تقاطع المصالح لمواجهة التحالف المعادي، مما يسهم في خلق توازن استراتيجي يزيد من تكلفة أي مغامرة عدائية.
ومن الأبعاد الحاسمة في استراتيجية المواجهة: تطوير «القدرات الدقيقة الشاملة» والتكيف مع الحرب الحديثة، بالاستفادة من دروس الحروب المعاصرة، والاستثمار في تقنيات غير مكلفة وفعالة، مثل الطائرات المسيرة التي أثبتت قدرتها على فرض تكاليف غير متكافئة على العدوّ.
إن هذا المزيج بين الأسلحة التقليدية والأسلحة الحديثة الرخيصة والدقيقة يشكّل جوهر «القدرات الدقيقة الشاملة»، التي تعتمد على الذكاء الاصطناعي لتحقيق التفوق في ساحة المعركة.
وأخيرًا، يجب تعزيز الحصانة الداخلية والحرب النفسية المضادة، من خلال تنفيذ خطة شاملة لمواجهة الحرب النفسية والإعلامية، عبر خطاب إعلامي موحّد وشفاف يكشف زيف الروايات المعادية.
وهو ما يشكّل تطبيقًا لمبدأ فهم المستوى النفسي للحرب، الذي ينطوي على عناصر غير ملموسة، مثل الروح المعنوية للقادة والجنود، والشجاعة، والإقدام.
إن هذه الاستراتيجية المتكاملة ليست مُجَـرّد رد فعل على تهديدات آنية، بل هي رؤية استباقية تضع اليمن في موقع المبادرة، مستفيدةً من تراثه النضالي وتجربته الميدانية الثرية في تحويل التحديات إلى فرص، وإثبات الإرادَة الوطنية الحرة التي لا تقبل المساومة.
فالقوة العسكرية وحدها، رغم أهميتها، لن تكون كافية دون حكمة في استخدام جميع أدوات القوة الوطنية – السياسية، والدبلوماسية، والاقتصادية، والإعلامية – في إطار استراتيجية موحّدة ومبتكرة تستلهم مبادئ العلم العسكري وتطوعها لخدمة الأهداف الوطنية العليا.
إن اليمن الذي صمد أمام أعتى التحالفات الدولية والإقليمية، وقدر على استنباط دروس النظرية الاستراتيجية وتطويعها لصالحه، هو اليمن الذي سيكتب فصلًا جديدًا في تاريخ المقاومة والتحرّر، وسيظل شامخًا في مواجهة كُـلّ المخطّطات التي تهدف إلى النيل من سيادته وكرامته ومواقفه الثابتة.