” التّلفاز وسيلة الحرب الناعمة “

 

إب نيوز ٢٤ سبتمبر

كتبت/ ملاك محمود

إنّ من أشدِّ أنواعِ الأسلحةِ فتكاً تلك التي تقتلُ بلا دماء دون أن تترك أيَّ أثرٍ للجريمة ، تقتلُ بكفوف حريرية ، فلا يشعرُ ضحيّتُها بالألمِ إلاّ بعد فوات الأوان وانقضاءِ الوقت ، حينئذٍ لا يبقى للضحيةِ وقتٌ ليستعيدَ قوّتَهُ ويسترجعَ أنفاسَه ، وإنْ أُتيح له ذلك كان عليه أن يتحمّل الثمن الباهض ..

لم يألُ العدو جهداً في أنْ يحشد جميع الإمكانات والقدرات المادية والبشرية لتوظيف الإعلام ليصبح من أهمّ نقاط القوة التي ترتكزُ عليها الحرب الناعمةُ بأجنحتها المتعددة كافةً ، ولأنّ الإعلام كان ولا يزالُ من أهم الوسائل التي تُسهم بشكل فاعل في تغيير القناعات والثقافات والسلوكيات وإسقاط واقعٍ سياسيٍ وثقافي واجتماعي مرسوم الحدود والزوايا من قِبَلِ قادة هذه الحرب الشنيعة كان بجدارةٍ سلاح الحرب الأقوى ..

التلفازُ أو الميديا البصرية هي ما سنركز عليه في مقالِنا هذا ، والذي سنتحدث فيه عن كيف تُدارُ الحرب الإعلامية الناعمة بواسطة السلاح الذي غزا واحتل كلّ بيتٍ و دار ، ليصبح جزءًا من كل أسرة عربية ومسلمة ..

لن يستطيع أياً كان أن ينكر حقيقة أنّ التلفاز غدا من أهم وأبرز المعالم والضروريات في البيت العربي ، فمنذ أنْ بدأتْ حركة التكنولوجيا بالتقدم والازدهار ، وباتت الأقمار الاصطناعية تغزو الأرض والفضاء وظَّف اليهود إمكاناتهم لتفعيل السلاح الذي كانوا يدركون أنهم بواسطته سيحققون أحلامهم التي تهدف إلى احتلال الشرق الأوسط وتدمير الإسلام شعاراً وعقيدة .. !

فمن خلال هذا السلاح الفتّاك استطاع أعداء البشرية برمجةَ العقول وفق قيم ومبادئ الصهيونية العالمية ، وتحريف وتشويه المفاهيم المقدسة واستبدالها بمفاهيم خاطئة ومغلوطة تتنافى مع سنن الله وشرائعه الحكيمة ، بل وتتنافى مع قيم الإنسانية بغض النظر عن الدين والثقافات والأثينيات ..

فكان من أبرز أهداف الحرب الإعلامية الناعمة التي أُريد تحقيقها من قبل الصهيونية العالمية بواسطة التلفاز :

• استهداف إنسانية الإنسان وتشويه فطرته السليمة .

• استخدام الحرب الإعلامية الناعمة جيوسياسياً للسيطرة على ثروات ومقدرات الشعوب .

• استهداف كلاً من المرأة والطفل كونهما أهم شريحتين يرتكز عليهما استقرار واتزان المجتمع .

• تشويه المفاهيم وخلخلة النسيج الفكري للمجتمع الإسلامي ، وضرب الاتزان السلوكي والقيمي له ، وإفراغ المجتمع المسلم من قيمه ومبادئه .

• محاولة طمس وتشويه التاريخ الإسلامي الأصيل والسعي لاستهداف العادات الأصيلة والعريقة للشعوب .

ومن المؤسف جداً أن نعترف بأنّ أهداف الحرب الإعلامية الناعمة قد تحققت في معظم الأقطار العربية والإسلامية ، واستطاعت أنْ تجعلَ من الشعوب العربية والإسلامية جنوداً يقاتلون في صفها ، ومن مصاديق ذلك أنْ نرى في مجتمعاتنا العربية والإسلامية تفشي الفساد السياسي والديني والأخلاقي ، وانحسار القيم والفضيلة وانتشارِ الرذيلة وانحلال الثقافة القرآنية السليمة ..

إنّنا اليوم نواجه عدواً خبيثاً وماكراً يعتمد في معركته على سياسة النفس الطويل ، فهذه الاستراتيجية لا يتم استخدامها في المعارك العسكرية فقط ، بل تُعدُّ من أبرز الأدبيات والاستراتيجيات المُعتمدة في الحرب الناعمة ، إضافةً إلى أنّ هذا العدو يسعى لضربنا وتدميرنا بأقل تكلفه ..

فنجدُ أنّه يعكف منذ الأزل على تنفيذِ مخططاته دون كللٍ أو ملل ، ويعمد إلى ضربنا بأموالنا وثرواتنا ومقدراتنا دون أن يكون مجبراً على دفع دولارٍ واحد .. !

فمعظمُ المحطات الفضائية ناطقةٌ باللغةِ العربية ويموّلها ويدعمها ملوك وأمراء وأثرياء الخليج بالدرجة الأساسية ، وهذا ما بات معروفاً ومُعترفاً به ..

وحقاً إنّ هذه لكارثةٌ ينبغي أنْ يقف عليها أهل الاختصاص لتشخيصها وإيجاد الحلول المناسبة والبدائل التي تُعيدُ للحضارة الإسلامية رونقها وألقها ومكانتها ، وتجعلُ من الإعلامِ وسيلةَ بناءٍ لا هدمْ ..

إنّ هذه ليست دعوةٌ لإعلان الحرب على التلفازِ والأقمارِ الاصطناعية ، كلا ..
فبرغم كون أكثر من 90% من القنوات الفضائية مملوكةٌ للصهيونية العالمية وقوى الاستكبار العالمي إلاّ أنه يبدو لنا كسلاحٍ ذو حدين ، وللحدِّ الآخر منهما أنْ يلعب دور البديل والمصحّح لمسار الإعلام ..

ولكنْ ما نريده اليوم من خلال دراستنا لنظرية الحرب الناعمة وأصولِها هو خلقُ وعيٍ مجتمعي يمثّل الحصانة أمام تحقيق أهداف نظرية المؤامرة وإحباط مخططات الصهيونية العالمية والإمبريالية الأمريكية ، فالوعيُ المجتمعيُّ السليم هو الحل الأمثل والسلاح الأقوى في مواجهة هذا الصراع العالمي الإعلامي البارد ..

وكما تحدّثنا سابقاً فمن خلال التلفاز استطاع العدو النفاذ إلى أعماق كل بيت وأسرة فتمّ تقسيم الإعلام المرئي إلى أقسامٍ متعددة لكلٍ منها مهام ووظائف متعددة تستهدف مختلف الشرائح الاجتماعية وتتطرق لمختلف الشئون الإنسانية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والسلوكية والأخلاقية ..

أولاً : الإعلام السياسي :

– في فضاء الميديا تحتل السياسة أهميةً بالغة ، حيث تم توظيف الإعلام سياسياً للتأثير على الرأي العام وتفعيل أو إبطال ما يشاء ، كوسيلةٍ رئيسية لصنع ثقافةٍ سياسية معينة ، الكثير من القنوات الفضائية والكثيرُ الكثيرُ من البرامج السياسية تطرح وجهات نظر وتحاليل سياسية منافية لقيم ومبادئ الأخلاق السياسية والإعلامية بل والإنسانية ، ابتداءً بتشويه الحقائق وتشويش الصورة وقولبة الرأي العام ، مروراً بـ البروباغندا الإعلامية والسياسية المضللة لتشويه الحقائق وزرع السموم السياسية ، في تنافٍ واضح مع مواثيق الشرف الإعلامي وقيم المصداقية والشفافية والمهنية فنجد في الأخير أن معظم البرامج السياسية لا تعطي معلومةً واضحة ومنقّحة وصافية للمُشاهد بل تجعله تائهاً في خضم تلك الجدالات السياسية العقيمة ..

فبينما ينتظر المشاهد العربي أنْ يتلقى ما يزيد من وعيِهِ السياسي ويكشف له الواقع كما هو بعين الحقيقة ، نجدُ أنّ فضائيات الحرب الإعلامية الناعمة تعمد بأسلوبٍ ماكر لإخفاء الحقيقة وحجب نورها عن المتلقي واستبدالها بما يشوش فكره ويخلق ممانعةً فكرية وسلوكية للحق والحقيقة ، فيتوه المتلقي في سراديب الضلال الإعلامي ليقف حينئذٍ عاجزاً عن اتّخاذ القرار والموقف الحكيم والموقع السليم له كونه فردٌ من منظومة مجتمعية واسعة ..

وهذا يمثّل خطراً كبيراً على الوعي السياسي للمجتمع ويسهم في إنجاح سياسة الفوضى الخلاقة أو ما يسمى ” الهدم ثم البناء ” ، تماماً كما حدث فيما يسمى بثورات الربيع العربي ، حيث تم حشد الترسانة الإعلامية لتحريك الشعوب نحو عمليات إسقاط الأنظمة المستبدة ، صحيح أنه كان لابد من صحوةٍ عربيةٍ إسلامية لاقتلاع الفساد والأنظمة العميلة ، ولكنْ ما حدث فعلاً أنه تم استغلال الغضب المكنون في نفوس الشعوب وتحريكه عاطفياً بواسطة القنوات الإعلامية كقناتي الجزيرة والعربية على سبيل المثال ، لتتحول المواقف الثورية إلى فوضى تتيح لقوى الاستكبار العالمي والصهيونية العالمية إعادة ترتيب المشهد في المنطقة بما يخدم سياسة النظام العالمي الجديد ، عدا تلك الثورات التي حملت طابع المقاومة المناوئة لسياسة الامبريالية الأمريكية والصهيونية العالمية والاستعباد الممنهج لقوى الاستكبار والتي ترسخ مبدأ التبعية العمياء للسياسات الدولية كثورتي اليمن والبحرين ..

ولا ننسى أنّ ما أسهم حقاً في الحفاظ على مبادئ الثورة لهذين البلدين هو وجود إعلامٍ حر ومقاوم تديره قيادةٌ حكيمة ، يسعى لإبراز المظلومية وترسيخ ثقافة المقاومة ورفض الظلم ومناهضة مشاريع الشيطان الأكبر أمريكا وغدتها السرطانية إسرائيل ، ونشر الوعي المجتمعي بأهمية القضية الأساسية والمفصلية للشعوب العربية والإسلامية ألا وهي ” القضية الفلسطينية ” ليبرز فقط عدو واحد هو ” الصهيونية العالمية ” متمثلةً بأمريكا وإسرائيل وعملائِهما ..

فكان للإعلام الثوري الحر المقاوم دوراً عظيماً في الحفاظ على اتزان الثورتين واستمرارهما بعيداً عن التدخلات الخارجية لقوى الاستكبار ..

وللأسف نرى أنّ قنوات التضليل إضافةً للتشويش على المتلقّي تسعى لبثِّ وزراعة الفتن وتنمية الأحقاد بين أبناء الوطن الواحد لخلخلة نسيجه الاجتماعي .. !

ثانياً : الدراما :

– أما عن الدراما فحدّث ولا حرج فقد كانتْ ولا زالتْ تمثّل الطريقة الأنفع والأنجع لتمييع ثقافة الشعوب ، خصوصاً المرأة التي تمّ استهداف وعيها بطريقة ممنهجة ، فالمرأة كما لا يخفى على أحد هي عماد المجتمع الرئيسي الذي يرتكز عليه ، فإذا أردتَ استهداف مجتمع ما استهدف فيه المرأة لتجده يتخلخل ويتفكك تلقائياً .. !

وهذا بالضبط ما عمل عليه قادة الحرب الناعمة وأسقطوا من خلال المسلسلات الدرامية واقعاً مرسوماً ، دعونا نضربُ مثالاً لتتضح الفكرةُ أكثر ، نجدُ في بعض المسلسلات الكثير من المشاكل الاجتماعية التي يستعرضها المسلسل وتصوير لمشاهد قد لا تكون واقعية بالحد الذي يدفع لتناولها تحت مبرر معالجتها .. ! والحقيقة أنّ ذلك ليس سوى مبرر سخيف يُخفي وراءه هدفاً أشد خبثاً ألا وهو الترويج والتسويق بصورة غير مباشرة لعاهات وانحرافات أخلاقية ودينية ، والدليل أنه في ختام المسلسل لا يتم تناول علاجات جذرية لهذه المشاكل الاجتماعية والأخلاقية ، بقدر ما يخرج المشاهدُ بحصيلةٍ هائلة من التعاطف مع من تخون زوجها أو من يخون زوجته ، أو مع من يلجأ في نهاية المطاف للتعاطي أو الانتحار .. !

إضافةً للمسلسلات والأفلام المنحلّة التي تستهدفُ شبابنا العربي المسلم والتي تسهم في تدميره نفسياً وعاطفياً وتجره نحو سلوك منحرف وشاذ عن القيم الدينية والأخلاقية ؛ لنشر الفساد والرذيلة في المجتمع ..

ومؤخراً نجد أن قضية التطبيع مع العدو الصهيوني قد بدأت تأخذ مساحةً لها في الدراما العربية ، وتثير عواطف المشاهد في الاتجاه الذي يزرع في أعماقه فكرة التطبيع ومشاعر التعاطف مع اليهود الذين هم شركاء لنا في الأرض وأخوةٌ لنا في الإنسانية .. ! في خطوة جريئة تثبتُ تورط النظام الصهيوني في إدارة وتمويل تلك القنوات التي تعرض مثل هذه المسلسلات .. !

ثالثاً : إعلام الطفل :

– وهذا هو الجزء الأهمّ الذي ينبغي التركيز عليه ، كونه يلامس مستقبل جيل به يُبنى المجتمع أو يُهدم ، ولعل من أبرز نقاط الضعف لدينا في عالمنا العربي الإسلامي افتقارنا لإعلام طفل يرتقي إلى مستوى بناء الطفل ثقافياً ودينياً وسلوكياً وأخلاقياً بما يخدم هذه الأمة ويسعى لبنائها وارتقائها ، فجلُّ وسائل الإعلام الخاصة بالطفل تسعى فقط لتدمير الطفل العربي المسلم وتمييع وإذابة فكره وشخصيته ، فهو إعلام مملوك لديزني وهوليوود وسي آي إي وشركات أمريكية وصهيونية خبيثة تمدّ أياديها الاخطبوطية لتغزو عقول أطفالنا ..

وربما استطعنا استعراض ذلك ولو بشيء من الإيجاز ، فإعلام الطفل الذي يعمل اليوم على غسل أدمغة أطفالنا وتدجينهم يسير في المسار التالي :

إنّ هذه الحرب الناعمة التي تستهدف مختلف شرائح المجتمع من شباب ونساء وأطفال ترتكز على استهداف نفسية المُستهدَف ، وهذا بالضبط ما يقومون به ، فللطفل ميول نفسية وعاطفية وحسية تؤثر فيه ، فاختيار الشخصيات إلى انتقاء الألوان إلى سايكيولوجية الحركات والتعبيرات الجسدية لشخصيات المسلسل إلى اختيار الألفاظ والعبارات ودبلجة الأصوات إلى الموسيقى وألحان الشارات ، كلها تترسخ في العقل الباطن للطفل وتترك أثرها فيه ، وليس بالضرورة أن يكون الأثر سريع الظهور بل إنّ التأثير هنا هو تأثير تراكمي ، يبدأ بالظهور والبروز شيئاً فشيئاً ، فيبدأ بفكرة مترسخة في العقل الباطن ليتطور مع الأيام حتى يصبح سلوكاً مترجماً على الواقع ..

وهذا ما يفسر لنا نوبات العنف التي باتت تعتري كثيراً من الأطفال الذين يقضون معظم وقتهم أمام شاشات التلفاز التي تعرض لهم مسلسلات أطفال مليئة بمشاهد العنف والشذوذ .. !

إننا بحق بحاجة لقوة إعلامية لمواجهة ومحاربة هذه الحرب الإعلامية الباردة التي باتت تهدد مجتمعاتنا والتي نجحت حقاً في استهدافها ، نحن اليوم وعلى امتداد السنين والعقود والقرون القادمة بأمس الحاجة لتحصين مجتمعاتنا والاستفادة من رصيدنا الديني والقيمي والفكري والأخلاقي الذي يتمتع به ديننا الإسلامي لإيجاد بدائل إعلامية فاعلة وبناءة تحمي وتحصن مجتمعاتنا من هذه الحرب الشعواء التي تسعى لتشويه الإسلام وطمسه .. ولكن لن يكون ذلك إلا بعد أن نعي جيداً ونفهم استراتيجيات الحرب الناعمة التي تشنُّ علينا .. حينها فقط سنصلُ إلى الحل .

#اتّحاد_كاتباتِ_اليمن

You might also like