سوريا الجولاني: مرآة الغد العربي.. كيف حوَّل التطبيعُ السيادةَ إلى ساحة استباحة.
إب نيوز ١٩ يوليو
فهد شاكر أبوراس
التهجير لأهلنا في غزة أو حتى احتلالها لن يكون النهاية، بل بداية توسع المشروع الصهيوني الواضح والمعلن، والذي لم يعد يحتمل التأويل أو الجدل، ولطالما صرح قادة الإحتلال وعلى الملأ بذلك وكشفوا عن مخططات “أرض إسرائيل الكبرى” التي تمتد من النهر إلى النيل، ونشروا خرائط ذلك التوسع في وسائل إعلامهم، محاولين رسم حدود مملكة داود الموهومة. وهذه الحقيقة الصادمة تواجهها الأمة العربية للأسف الشديد وهي تغط في سبات عميق، بل وترفع شعارات التطبيع وكأنها تمائم وقاية، وتقدم ضمانات الأمن للعدو على طبق من ذهب ظناً منها أن هذا الانبطاح سيكون جواز مرور للنجاة.
التجربة السورية في ظل القيادة الجديد برئاسة الجولاني تقدم دليلاً دامغاً على خواء هذا الوهم، ودمشق التي سارعت إلى نزع لغة المقاومة من خطابها الرسمي، واستبدلت الشعارات الثورية بخطاب “البراغماتية الواقعية”، وأغلقت ملف الجولان المحتل بأمل استرداده عبر التفاوض، وقدمت مبادرات ود متكررة عبر قنوات سرية وعلنية، بل وذهبت إلى حد منع أي عمل مقاوم من أراضيها ضد العدو، واعتقلت من يتهمون بـ”استفزاز إسرائيل”، وكل هذا في سبيل كسب رضا العدو الصهيوني الذي وعدها بـ”سلام شامل” و”تعاون أمني”، ولكن ما كان جزاء هذه السياسة.؟ لقد قابلتها آلة الحرب الصهيونية بالمزيد من الغارات الجوية والتي باتت تنتهك سيادة السماء السورية كل يوم، وتستهدف المواقع العسكرية والمدنية على حد سواء، في رسالة واضحة أن لا مكان للسيادة العربية حتى لمن يمد يده بالسلام، إنها العدوانية نفسها التي شهدتها غزة، نفس الأسلحة، ونفس التكتيكات، ونفس الاحتقار للحياة البشرية. القنابل التي تسقط اليوم على أحياء دمشق هي توأم تلك التي دمرت حي الشجاعية وخان يونس، وصنعت في نفس المصانع الأمريكية، وتمول من نفس الميزانية الغربية والعربية، وترسل بنفس العقيدة التوسعية، من يقرأ تصريحات وزير الدفاع الإسرائيلي بعد غارة دمشق (“سنواصل الضربات التصاعدية حتى تستوعبوا الرسالة”) يدرك أن لغة القوة هي اللغة الوحيدة التي يفهمها هذا العدو، وهي اللغة التي لا تعترف أبداً بمنطق المصالح أو حسن النوايا وتزداد ضراوة وشراسة كلما زادت تنازلات الطرف العربي والمسلم، لقد حول الكيان الصهيوني سوريا الجولاني إلى مختبر مفتوح لاختبار أسلحته، وساحة لتصفية عناصر المقاومة من غير دمغتها، وأرضاً لفرض سياسة الأمر الواقع، وكل ذلك تحت سمع النظام الجديد وبصره، وهو الذي أعلن مراراً وتكرارا أن “صفحة صراع سوريا مع إسرائيل طويت”، فماذا جنى من هذه السياسة سوى المزيد من الإذلال.؟ وماذا كسب من منع المقاومين سوى ترسيخ ثقافة الخنوع.!
مفارقة مأساوية: نظام يسعى للسلام مع العدو فيقابل بالقصف، ويقدم التنازلات فيكافأ بالمزيد من التعدي، ويغلق جبهة المقاومة ليفتح على نفسه جبهة الاستباحة اليومية وهذه ليست أخطاء تكتيكية صهيونية بل هي منهج ثابت ومستدام في طريقة تعامل الكيان الصهيوني مع العرب، منهج يعتبر أي خطوة تطبيعية دليلاً على الضعف، وأي مبادرة سلام اعترافاً بالهزيمة، وأي سعي للود مؤشراً على الاستعداد لمزيد من التنازل، فلماذا تتعامل الأنظمة العربية مع هذا العدو وكأنه دولة طبيعية تحترم المواثيق، ولماذا تصر على تصديق أكاذيب الدبلوماسية الإسرائيلية وهي ترى يومياً كيف يداس كرامتها في فلسطين وسوريا، لقد حان الوقت لاستخلاص العبرة الحاسمة: لا أمل في التعايش مع مشروع بني على الإبادة، ولا رهان على سلام مع كيان لا يعترف بحدود، ولا جدوى من تطبيع مع من يعتبرك كائناً أدنى لا يستحق الحياة.
إن الدم المسفوك في أزقة دمشق اليوم هو نفس الدم الذي غرق فيه أطفال غزة، وينزف من الجرح نفسه، جرح الأمة الممتد من المحيط إلى الخليج، فهل ننتظر حتى تصل الدبابات الصهيونية إلى أبواب القاهرة والرياض وعمان، هل سنجعل اصابعنا في آذاننا حذر سماع ناقوس خطر التوسع الصهيوني بعد أن بات العدو يعلن خططه التوسعية جهاراً وفي وضح النهار.
إن تجربة سوريا الجولاني هي في الحقيقة تعد صرخة مدوية في وجه كل من يروجون لخرافة “السلام مقابل الأمن والأرض”، وتثبت أن العدو لا يفهم إلا لغة البندقية، ولا يحترم إلا منطق القوة، ولا يعترف بوجودك إلا بعد أن تثبت له بأنك قادر ومستعد للمواجهة ودفع الثمن.
إن الأمة التي لا تستفيد من دروس الدم هي أمة محكوم عليها بالانقراض، وها نحن نشهد كيف تحولت سوريا من قلعة للصمود إلى ساحة مفتوحة للعدوان، ليس بسبب ضعف جيشها، بل بسبب وهم السلام الذي شل إرادة المواجهة، وزرع ثقافة الخوف من “استفزاز” العدو، إنها الآلية نفسها التي تم تطبيقها في مصر بعد كامب ديفيد، التي حولت الجيش المصري وهو الجيش الأكبر عربياً إلى حارس لحدود إسرائيل، وفقدت سيناء سيادتها الفعلية لصالح شروط أمنية إسرائيلية مهينة، فهل نريد لمستقبل الأمة أن يكون سيناريو سيناء مكرراً من المحيط إلى الخليج.
إن إنذار التجربة السورية هو ناقوس خطر يجب أن يوقظ كل الغافلين: فقبل أن تصل الطائرات الحربية إلى سماء بقية العواصم العربية، وتصبح أراضيها ساحات للاستهداف المفتوح، وقبل أن تتحول سيادة العرب إلى حبر على ورق اتفاقات مهينة، عليهم أن يتذكروا أن دمشق كانت تتحدث بنفس لغة “الواقعية السياسية” التي يتحدثون بها اليوم، وكانت تؤمن بـ”الحكمة” و”المرحلية” و”عدم استعداء القوى العظمى”، فماذا جنَتْ سوى خراب البيوت، وتمزق السيادة، وتكريس الاحتلال؟ لقد حان الوقت لقلب المعادلة: فكما أن العدو لا يهدأ حتى يبتلع الأرض، لا بد للأمة أن لا تهدأ حتى تحرر الأرض، وكما أنه يستخدم القوة المفرطة لتحقيق أطماعه، لا بد للأمة أن تستعيد إرادة القوة لصد عدوانه.
إنها معركة وجود لا تحتمل التردد أو المساومة، معركة يجب أن توحد فيها الصفوف، وتصحح فيها المفاهيم، وتعاد فيها صياغة الخطاب الرسمي من لغة الخضوع إلى لغة الحقوق، ومن عقلية الانبطاح إلى إرادة المواجهة، فالتاريخ لا يرحم الضعفاء، والقادمون سيسألوننا: أين كنتم حين كانت الأمة تُذبح قطعة قطعة، وكيف سمحتم بإقامة الدولة الصهيونية وتحويل القدس إلى عاصمة أبدية لها، وهل كان صمتكم حكمة أم جريمة في حق الأجيال.؟
هذه الأسئلة المحرقة هي محك الوعي اليوم، فبينما العدو الصهيوني يتقدم في تنفيذ مخططاته الصهيونية التوسعية بخطى ثابته، تتقهقر الأمة في منحنى التنازلات بخطى متسارعة، حتى أصبحت على حافة الهاوية، فإما الصحوة السريعة أو السقوط في الهاوية، إما إعادة الاعتبار لخيار المقاومة المشروعة بكل أدواتها، أو الاستعداد لمصير أسوأ من مصير غزة، فدماء شهداء فلسطين وسوريا تنادينا: أيها العرب المستنيمون في أحضان الخيانة، استيقظوا قبل أن لا تجدوا أرضاً تدافعون عنها، ولا شبراً تدفنون فيه! فليكن درس الجولاني النهائي: لا خلاص إلا بالمقاومة، ولا كرامة إلا بالتحرير، ولا سيادة إلا بانكسار شوكة المحتل.