من تجويع غزة: نفهم “أن بين الجيش الذي لايقهر” وبين هزيمته قرص خبز.

إب نيوز ٢٤ يوليو

فهد شاكر أبوراس

من بين صفير الرصاص وهدير الدبابات ودوي الصواريخ في سماء غزة المحاصرة، يعلو صوت آخر، أكثر إلحاحًا ووجودية: صوت البطون الخاوية، صوت صرير الأقدام المتعبة في طوابير لا تنتهي، صوت همس الأمهات المتعبات وهن يحاولن تهدئة أطفالهن الجوعى بوعود خافتة عن رغيف قادم.

صوت يحفر في جدار الأسطورة المزعومة “الجيش الذي لا يقهر” شروخًا عميقة تكشف هشاشة أساسه الأخلاقي وتتنبأ بسقوطه المحتوم.

من قلب هذه المأساة، يطفو سؤال جوهري يختزل معنى الصراع: عن “كيف يمكن لقوة عسكرية ضخمة، تتباهى بتفوقها التكنولوجي وقدراتها الاستخباراتية الفائقة” أن تجد في قرص خبز، تحدياً وجودياً يهدد أسطورتها ويعري زيف ادعاءاتها..؟!

الإجابة تكمن في المشهد نفسه: فالقوة العسكرية عندما تتحول من أداة حرب ضد خصوم مسلحين إلى أداة حرب ضد الحياة في أبسط تجلياتها، المتمثلة في قوت الإنسان ولقمة عيشه، فهذا ليس دليل قوة بل هو إعلان إفلاس أخلاقي واستراتيجي مدو، وبداية حتمية وحقيقية لهزيمتها في ساحة التاريخ والضمير الإنساني التي لا ترحم.

الحقيقة هي إن سياسة التجويع الممنهج التي يمارسها العدو الصهيوني في غزة ليست فقط مجرد تكتيك عسكري قاس؛ بل هي تشخيص دقيق لمرض استراتيجي فتاك يصيب أي جيش يظن أن بطولته تكمن في قدرته على حرمان المدنيين من لقمة عيشهم وكسر إرادتهم بتجوعيهم.

هذا الخيار الاستراتيجي المريع هو لحظة اعتراف صارخة للجيش الصهيوني، وإن كانت غير معلنة، بهزيمة الروح القتالية لديه، وعجزه عن تحقيق النصر المنشود، أو ربما بخواء الهدف الأصلي ذاته والذي لم يعد مقنعًا حتى لمن يروجون له.

عندما يخصص جيش يمتلك أحدث تقنيات القتل والمراقبة والاستهداف على مستوى العالم، جزءاً هائلاً من طاقته وموارده وتركيزه الاستخباري لمراقبة ومحاصرة ومنع وصول أساسيات الحياة إلى مجتمع ما؛ كالغذاء والماء والدواء، وتدمير البنى التحتية الحيوية لإنتاج الطعام من أفران ومخابز ومستودعات للتخزين، ويجعل من عملية البحث عن الخبز فيه عملية محفوفة بالمخاطر والموت، فإنه يقدم دليلاً قاطعاً على تحوله من جيش يدعي الدفاع عن نفسه، إلى آلة قهر منهجية تستهدف كرامة الإنسان في صميمها.

وهذا التحول الجوهري في السردية الصهيونية وابانتقال من خطاب “الردع” و”الأمن” إلى الممارسة الصريحة للعقاب الجماعي والإبادة البطيئة، والاستهداف الممنهج للقدرة البقائية لدى المجتمع الغزي، والانحدار الأخلاقي الحاد؛ هو أولى علامات الانهيار الداخلي للقوة العسكرية لدى جيش الإحتلال، وهزيمة الضمير التي دائماً ما تسبق الهزيمة في الميدان.

فالجيش الذي يشن حرباً مهولة على قرص خبز، ويجعل من منع وصوله غاية استراتيجية له، هو في الحقيقة يعترف ضمناً بأن هذا القرص الصغير يحمل تهديداً وجودياً لأسطورته الكاذبة؛ وهنا تكمن المفارقة الساخرة والمروعة: فالحرب على الخبز تخلق شكلاً جديداً من المقاومة الوجودية التي لا تقهر. في مواجهة آلة الدمار الشامل، لذلك، نحن نفهم من مشهد تجويع غزة، أن بين الجيش الذي لطالما رفع لواء “المنعة” و”الأسطورة” وبين هزيمته الساحقة أخلاقيًا أولاً، وماديًا لاحقًا يقف حاجزًا مصيريًا صغير هو “قرص خبز” ذلك القرص الصغير المتواضع، والذي أصبح في ساحات الحرب مع جيش الإحتلال حكمًا صارمًا ورمزًا كونيًا.

You might also like