حرب الكيبورد: عندما تصبح البيانات سلاحًا والوعي مقاومة

إب نيوز 2 نوفمبر

فهد شاكر أبوراس

بينما نحصد نحن حبّات القمح في حقولنا البسيطة، يزرع الآخرون أكاذيبَ مصنوعةً في مختبراتٍ متطورة.. الحرب لم تعد تقتصر على طائرات تحلّق في السماء أَو دبابات تجوب الأرض، بل انتقلت إلى فضاءٍ لا تراه العين المُجَـرّدة، لكن تأثيره يضرب بعمقٍ في الوعي والوجدان.

إنها الحرب الرقمية التي تشنّها آلة الدعاية الصهيونية بميزانياتٍ هائلة تُقدّر بمليارات الدولارات، مستخدمةً أحدث ما توصّلت إليه تكنولوجيا “الذكاء الاصطناعي” وتحليل البيانات – ليس فقط لتلميع صورتها المشوّهة، بل لإحكام السيطرة على الرواية الرقمية العالمية، وطمس حقيقة شعبٍ يكافح منذ عقود؛ مِن أجلِ وجوده وحقّه في أرضه.

إنها معركة وجودٍ في عالم الأفكار والصور، معركة روايةٍ ضد رواية، لكن بإمْكَانياتٍ غير متكافئة تهدّد بإخفاء الصوت الحقيقي تحت وطأة ضجيجٍ مدفوع الثمن.

لا يكتفون ببثّ الروايات المزيّفة، بل يهاجمون مساحاتنا الرقمية الشخصية بلا هوادة.

كُـلّ منا أصبح جبهةً محتملة، وهاتفك الذكي تحوّل إلى ساحة معركة.

فهم يستهدفون بياناتنا الشخصية بعنايةٍ فائقة: يدرسون اهتماماتنا، عواطفنا، نقاط ضعفنا، ثم يغذّوننا بمحتوى مصممٍ خصيصًا لتضليلنا، تشتيتنا، بل وحتى لزرع اليأس في نفوسنا.

إنه استهداف دقيق وممنهج للعقل والروح، يستخدم أدوات العصر ليس لخدمة الإنسان، بل لاستعباده فكريًّا.

فهم لا يريدون فقط أن يسيطروا على ما نراه، بل أن يتحكموا فيما نفكّر فيه، كيف نشعر، وأي قضية ندعم.

إنها عملية قرصنةٍ ممنهجة للوعي، تجعل من كُـلّ نقرة على لوحة المفاتيح معركةً مصغّرة في حربٍ شاملة.

وفي خضم هذا الغزو الرقمي، تبرز قضيتا فلسطين واليمن كنموذجين صارخين لهذه الآلة الإعلامية الجائرة.

فبينما تتعرض اليمن لعقابٍ جماعي تحت مسمّياتٍ ملتوية، تُحوّل فلسطين في عيون العالم إلى مُجَـرّد “صراعٍ معقد”.

لقد نجحت هذه الآلة – إلى حَــدّ كبير – في تحويل المجزرة إلى “دفاعٍ عن النفس”، والمقاومة إلى “إرهاب”، والصمود إلى “عنادٍ غير مبرّر”.

إنهم يسرقون الكلمات، ويعيدون تعريفها، ثم يبيعونها للعالم في عبواتٍ براقة، مستخدمين جيوشًا من المؤثرين والمدوّنين والمحللين المزيّفين، الذين يتقاضون رواتبهم مقابل تشويش الصورة وقلب الحقائق.

فيصبح الطفل الشهيد “ضحيةً جانبية”، والبيت المهدم “موقعًا عسكريًّا”، والمقاوم البطل “خطرًا إرهابيًّا يجب استئصاله”.

لكن في وجه هذا الجبروت الرقمي، لا يزال هناك بصيص أمل.

والأمل ليس في تقليد آلتهم، بل في تفعيل سلاحنا الأقوى: الوعي.

الوعي الرقمي الذي يحوّل كُـلّ مستخدمٍ من هدفٍ سلبي إلى مقاومٍ نشط في الفضاء الإلكتروني.

حماية بياناتنا الشخصية لم تعد رفاهية أَو مسألة خصوصية فردية، بل هي خط الدفاع الأول في هذه المعركة.

حين نحمي حساباتنا، ونرفض التطبيقات المشبوهة، ونتنبّه لطرق التصيد والاحتيال، فَــإنَّنا لا نحمي أنفسنا فقط، بل نحافظ على سلامة شبكاتنا الاجتماعية بأكملها.

نحمي أخانا الأقل دراية، وجارنا العُرضة للخداع.

إنها مسؤوليةٌ جماعية، جهادٌ رقمي في عصرٍ أصبحت فيه المعلومة سلاحًا لا يقل فتكًا عن الرصاص.

المواجهة الحقيقية تبدأ بفهم أن منصات التواصل الاجتماعي هي ساحاتنا العامة الجديدة.

يجب أن نتعلّم كيف نتحَرّك فيها بذكاء: ليس بالكم، بل بالكيف؛ ليس بالصراخ، بل بالحجّـة المقنعة والرواية المؤثرة.

علينا أن ننتج محتوى أصيلًا ينبع من واقعنا، بلغتنا، وبصوتنا الحقيقي – محتوى يخاطب العقل والقلب معًا، يفضح الأكاذيب ليس بالشعارات فحسب، بل بالحقائق، والأرقام، والصور التي لا تقبل الجدل.

علينا أن نكون أمناء على روايتنا، نرويها بطريقتنا، دون تزييف أَو مبالغة.

فالحقيقة كالشمس: حتى لو حجبتها الغيوم لبعض الوقت، فلا بد أن تشرق من جديد.

بناء المناعة الرقمية المجتمعية هو الاستراتيجية الأذكى لمواجهة هذه الحرب غير المتكافئة.

علينا أن نعلّم آباءنا وأُمهاتنا، إخوتنا وأخواتنا، أبناءنا وأقاربنا وأصدقاءنا، كيف يميّزون الخبر الزائف، ونشجّعهم على تطوير مهاراتهم الرقمية – ليس للترفيه فقط، بل للإنتاج والمقاومة.

كما يجب دعم المبادرات التقنية المحلية التي تقدّم بدائل آمنة وموثوقة، والاستثمار في الأبحاث المتعلقة بأمن المعلومات باللغة العربية.

المقصود ليس أن نغلق على أنفسنا أبواب العالم الرقمي، بل أن ندخله ونحن مسلّحون بالعلم والوعي، مستعدّون لخوض المعركة بأخلاقنا وقيمنا، مستخدمين أدوات العصر ضد من يسعون لاستعبادنا بها.

الحرب الرقمية هي امتداد طبيعيٌّ للحرب على الأرض، والانتصار فيها لا يقل أهميّة.

وهو يستلزم نفس إرادَة الصمود، ونفس روح المقاومة.

ربما تكون المعركة غير متكافئة من حَيثُ الموارد، لكنها متكافئة من حَيثُ الحق.

والحق، في النهاية، يعلو – لكنه يحتاج إلى من يسنده:

إلى أصابع تكتب على لوحات المفاتيح بنفس إصرار المقاوم الذي يمسك ببندقيته،

وإلى عيون تراقب الشاشات بنفس يقظة الحارس على الحدود.

إنها معركة إرادات.

وإرادتنا – بإذن الله – أقوى من كُـلّ ميزانياتهم، وأعظم من كُـلّ تقنياتهم،

لأننا ندافع عن الحقيقة..

والحقيقة لا تُقهَر.

You might also like