إيران.. اتّفاقية القاهرة نجاحٌ دبلوماسي لم يأتِ من فراغ

إب نيوز ١٩ ربيع الأول

 

فهد شاكر أبوراس

في خضم عاصفة التحديات الجيوسياسية والأمنية التي تهز منطقة الشرق الأوسط، تثبت الجمهورية الإسلامية في إيران مرةً أُخرى أنها قادرةٌ على الدفاع عن حقوقها المشروعة بصلابة لا تلين، من خلال موقفها الثابت الذي يجسد رؤية استراتيجية واضحة تقوم على حماية السيادة الوطنية ورفض أية شروط خارجية تمس بحقوق البلاد في تطوير برنامجها النووي السلمي.

موقفٌ ليس مُجَـرّد رد فعل ظرفي، بل هو امتدادٌ لسياسة إيرانية راسخة تؤكّـد على الحق في الاستفادة من الطاقة النووية للأغراض السلمية، كما يكفلها القانون الدولي ومعاهدة عدم الانتشار النووي، والتي تظل إيران طرفًا فيها على الرغم من كُـلّ الضغوط والمحاولات لتحجيم هذا الحق.

في مفاوضاتها مع الترويكا الأُورُوبية، التي تجري بشكل منفصل عن محادثاتها مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، ترفض طهران بشكل قاطع أية محاولة لفرض شروط مجحفة، خَاصَّة فيما يتعلق بتمديد مهلة تفعيل “آلية الزناد”، التي تُستخدم كأدَاة للضغط السياسي من قبل الولايات المتحدة وحلفائها.

هذه الآلية، التي أدرجت في الاتّفاق النووي عام 2015، يُفترض أنها تهدف إلى حماية الاتّفاق وضمان الالتزام ببنوده، لكن إيران ترى أنها تحولت إلى وسيلة غير قانونية لابتزازها وتقييد حريتها في تطوير برنامجها النووي السلمي.

وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي يوضح أن بلاده لا تعترف بأحقية الدول الأُورُوبية في تفعيل هذه الآلية، خَاصَّة في ظل فشل هذه الدول في الوفاء بتعهداتها ضمن الاتّفاق النووي الأصلية على مدى السنوات الماضية.

تأتي “اتّفاقية القاهرة” الموقعة بين إيران والوكالة الدولية للطاقة الذرية في سبتمبر 2025 كشاهد على براعة الدبلوماسية الإيرانية في تحويل الأزمات إلى فرص، حَيثُ نجحت طهران في إقناع الوكالة باعتماد إطار جديد للتعاون يحمي المصالح الإيرانية ويحافظ في الوقت نفسه على متطلبات الرقابة الدولية.

وهذا الاتّفاق، الذي تم بوساطة مصرية فعالة، يعترفُ صراحةً بأن الاعتداءات الإسرائيلية والأمريكية على المنشآت النووية الإيرانية كانت أعمالًا غيرَ قانونية وتنتهك مبادئ القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة، كما ينص الاتّفاق على أن أي تفتيش للمواقع النووية، خَاصَّة تلك التي تعرضت للهجمات، يجب أن يكون خاضعًا لموافقة مسبقة من المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني، بما يضمن حماية الأمن القومي وسلامة المنشآت النووية.

هذا النجاح الدبلوماسي لم يأتِ من فراغ، بل هو نتاج رؤية استراتيجية إيرانية تعتمد على مبدأ “القوة في المفاوضات” من خلال توازن دقيق بين المرونة والحزم، فمن ناحية، أظهرت إيران استعدادها للتعاون مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية ضمن الإطار الجديد، الذي يراعي الظروف الاستثنائية الناشئة عن الهجمات على منشآتها النووية، ومن ناحية أُخرى، حافظت على حزمها في رفض أي مساس بحقوقها السيادية.

هذا التوازن يعكس وعيًا عميقًا بالبيئة الدولية والإقليمية، حَيثُ تمكّنت إيران من كسب تعاطف دولي كبير، خَاصَّة من روسيا والصين، اللتين تؤكّـدان على حق إيران في الدفاع عن مصالحها المشروعة.

وفي مواجهة التهديدات المتكرّرة بـ”آلية الزناد”، التي قد تؤدي إلى إعادة فرض العقوبات الدولية، تظل إيران ترفع شعار “المقاومة الذكية”، حَيثُ تستخدم كُـلّ الأدوات الدبلوماسية والقانونية لإفشال هذه المحاولات، فتفعيل هذه الآلية يتطلب إجراءات معقدة قد لا تتمكّن الدول الأُورُوبية من إكمالها، خَاصَّة في ظل الاعتراف الدولي المتزايد بعدم شرعية الهجمات على المنشآت النووية الإيرانية وعدم جدوى السياسة القائمة على الضغوط.

بل إن بعض المراقبين يرون أن اتّفاق القاهرة قد يكون كافيًا لتجميد آلية الزناد، على الأقل مؤقتًا، مما يمنح إيران فرصة إضافية لتعزيز موقعها التفاوضي.

أما على الصعيد العسكري والأمني، فقد أظهرت إيران قدرة لا تخفى على الرد على أي عدوان، كما حدث بعد الهجمات الإسرائيلية في يونيو 2025، عندما أطلقت سلسلة من الضربات الصاروخية التي أوقعت خسائر في الجانب الإسرائيلي.

هذا الرد لم يكن فقط؛ بهَدفِ الردع، بل أَيْـضًا لتأكيد رسالة مفادها أن أي اعتداء على منشآتها النووية لن يمر دون رد، وأن سياسة “الضربة المجانية” لم تعد مقبولة في حسابات القوى المعادية.

بالإضافة إلى ذلك، تستمر إيران في تعزيز تحالفاتها الإقليمية والدولية، حَيثُ أصبحت وساطة مصر في اتّفاق القاهرة مثالًا على تحسن العلاقات بين طهران والقاهرة، مما يفتح آفاقًا جديدة للتنسيق الإقليمي الذي قد يساهم في تخفيف التوترات.

كما أن دعم روسيا والصين الثابت لإيران في المحافل الدولية يعطي طهران ظهرًا قويًّا في مواجهة الضغوط الغربية.

إيران ومن خلال سياستها الثابتة والواضحة، تثبت أنها ليست فقط قادرة على حماية حقوقها المشروعة، بل قادرة على تشكيل البيئة الدولية المحيطة بها لصالح مصالحها الوطنية.

رفضها القاطع للشروط الخارجية، وقدرتها على إبرام اتّفاقيات تحمي مصالحها الأمنية والسيادية، وتصميمها على المضي قدمًا في برنامجها النووي السلمي، كلها عناصر تجعل من النموذج الإيراني في “المقاومة الذكية” درسًا للدول التي تواجه ضغوطًا خارجية غير عادلة.

You might also like