المعجزة اليمنية.. كيف قلب الحصار البحري الطاولة على الاحتلال؟!
إب نيوز 10 أكتوبر
فهد شاكر أبوراس
في مشهد استثنائي أعاد تشكيل الجغرافيا السياسية للقوة والنفوذ في المنطقة، نجح اليمن في فرض معادلة الحصار البحري الفعال ضد كيان الاحتلال، وحول المياه الإقليمية والدولية إلى ساحة للمواجهة، ورسخ المعادلات الجديدة، حَيثُ أصبح الاقتصاد سلاحًا فاعلًا في معركة التحرير.
الحصار اليمني المفروض على كيان الاحتلال لم يكن مُجَـرّد عملية عسكرية تقليدية، بل كان ضربة استراتيجية محسوبة بدقة لقلب الموازين الاقتصادية، مستغلًا الموقع الجيواستراتيجي لليمن المطل على مضيق باب المندب، شريان الملاحة العالمي، ليكشف عن مدى هشاشة الاقتصاد الإسرائيلي المعتمد بشكل كلي على الاستيراد والتصدير عبر الممرات البحرية.
نجاح اليمن في فرض حصار بحري على الكيان حوله من بلد منكوب بالحروب إلى فاعل إقليمي مؤثر، قادر ليس فقط على تعطيل آلة الحرب الإسرائيلية بل على إرباك تحالفات الكيان الدولية وكشف محدودية قدراته في مواجهة إرادَة الشعوب التي تؤمن بقضاياها العادلة.
فمنذ اللحظات الأولى لإعلان الحصار اليمني المفروض على الكيان، بدأت التأثيرات الاقتصادية المباشرة تظهر بوضوح على الاقتصاد الإسرائيلي، حَيثُ شهدت موانئ الكيان المحتلّ تراجعًا حادًا في حركة السفن، فميناء أم الرشراش توقف بشكل كامل، بينما انخفضت الحركة في مينائي حيفا وأسدود بنسبة 56 % و30 % على التوالي في يناير 2024، مما شكل ضغطًا مباشرًا على سلاسل التوريد الإسرائيلية والتي تعتمد على الاستيراد البحري.
وهذه الأرقام لم تكن مُجَـرّد إحصاءات جافة، بل كانت تعكس اختناقًا اقتصاديًّا حقيقيًّا، حَيثُ تأثرت 25 % من واردات السلع النهائية و21 % من واردات مواد الإنتاج، ما هدّد 16 % من إجمالي الواردات الإسرائيلية، وهو ما يعني شللًا شبه تام لقدرة الكيان على توفير الاحتياجات الأَسَاسية لمستوطنيه واستمرار عجلة الإنتاج في مصانعه.
وهذه الاضطرابات أَدَّت إلى ارتفاع جنوني في تكاليف الشحن وبلغت 350 %، حَيثُ قفز على إثرها سعر نقل الحاوية من 1500 دولار إلى حوالي 7500 دولار، وهو ما انعكس بدوره على الأسعار المحلية، بحيث أعلنت شركات إسرائيلية عن زيادات في الأسعار تراوحت بين 7 % إلى 40 %، مما عمق من معاناة المستوطنين الصهاينة ورفع معدلات التضخم إلى مستويات قياسية.
والأكثر خطورة على كيان الاحتلال كان هروب رؤوس الأموال من السوق الإسرائيلية، بحيث هاجرت شركات استثمارية دولية عديدة، وانخفض النشاط الاستثماري بنسبة وصلت إلى 75 %، مما شكل إعلان إفلاس سياسي واقتصادي للكيان الغاصب أمام المجتمع الدولي.
لم يكن هذا النجاح وليد الصدفة، بل جاء نتيجة تخطيط استراتيجي محكم تطور عبر مراحل متعددة، بدأ فيه اليمن في نوفمبر 2023 بالاستهداف المباشر للسفن التي تحمل العلم الإسرائيلي أَو تملكها أَو تشغلها شركات إسرائيلية، ثم توسع في ديسمبر 2023 ليشمل جميع السفن المتجهة إلى موانئ الكيان المحتلّ بغض النظر عن جنسيتها.
ومع تصاعد العدوان الأمريكي البريطاني على اليمن آنذاك، دخل الحصار اليمني على الكيان مرحلته الثالثة في يناير 2024 ليشمل استهداف السفن الأمريكية والبريطانية وتوسيع منطقة العمليات لتشمل المحيط الهندي، ثم تطور في مايو 2024 ليشمل سفن الشركات التي تواصل التعامل مع الكيان الصهيوني، معلنًا أن كامل مياه المنطقة العربية أصبحت ميدانًا للعمليات.
وهذه التصعيدات المدروسة إنما تعبر عن رؤية استراتيجية عميقة تدرك أن المعركة مع العدوّ الصهيوني ليست معركة عسكرية فحسب، بل هي معركة اقتصادية في الأَسَاس، بحيث يمكن من خلال الاستهداف لشرايين الحياة الاقتصادية لكيان الاحتلال تحقيق ما تعجز عنه المواجهات المباشرة أحيانًا.
وقد أكّـدت القوات المسلحة اليمنية في بياناتها المتتالية أن هذا الحصار يأتي في إطار الإسناد المشروع للشعب الفلسطيني المحاصر وحمايته، وأنه سيستمر حتى يتم فك الحصار عن غزة وإدخَال الغذاء والدواء لسكانها.
لم يكن تأثير الحصار اليمني محصورًا على الكيان الصهيوني فحسب، بل امتد ليكشف هشاشة التحالفات الغربية وعجزها عن مواجهة إرادَة المقاومة، حَيثُ أعلن قائد العملية البحرية الأُورُوبية (“أسبيدس”) عن عدم قدرة قواته على حماية السفن التجارية؛ بسَببِ نقص السفن الحربية، مصرحًا أنه بعد انسحاب الفرقاطة الألمانية “هيسن” لم يعد لديه سوى ثلاث سفن حربية تحت تصرفه للأشهر المقبلة، في حين يحتاج لمهمته على الأقل 10 سفن حربية. وهذا العجز العسكري الغربي ترافق مع فشل ذريع للتحالف الأمريكي “حارس الازدهار” الذي وصفته صحيفة “واشنطن بوست” آنذاك بأنه “أكبر فشل أمريكي منذ عقود”، حَيثُ لم تنجح هذه التحالفات الدولية في وقف هجمات القوات المسلحة اليمنية أَو كسر الحصار المفروض على (إسرائيل)، بل ساهمت في كشف محدودية القدرات الغربية أمام تكتيكات اليمنيين الذكية المنخفضة التكلفة.
لقد نجح الحصار اليمني في فرض معادلة استراتيجية جديدة كسرت احتكار القوى العظمى لإدارة الأزمات الدولية، وأثبتت أن قوة الإرادَة والشعوب المتمسكة بحقها قادرة على تحدي أعتى الإمبراطوريات وأكثرها تطورًا عسكريًّا، حَيثُ عبرت هذه النتيجة عن تحول جيوسياسي عميق في موازين القوى الإقليمية.
أما على الصعيد الإقليمي، فقد مثل الحصار البحري اليمني صدمة للكيان الصهيوني الذي اعتاد على التفوق العسكري غير المقيد، وكشف عن عمق الاعتماد الإسرائيلي على الممرات البحرية وأظهر هشاشة هذا الاقتصاد الذي ظل يتغذى على موارد الأراضي الفلسطينية المحتلّة واستغلاله لمعاناة الشعب الفلسطيني.
لقد نجح الحصار في تحويل موانئ الكيان المحتلّ من مراكز اقتصادية حيوية إلى نقاط ضعف استراتيجية، مما فرض واقعًا جديدًا على صناع القرار الإسرائيليين الذين وجدوا أنفسهم للمرة الأولى منذ عقود أمام تهديد وجودي حقيقي ليس عسكريًّا فحسب، بل اقتصاديًّا يمس قدرة كيان الاحتلال على البقاء.
وقد عبرت هذه النتيجة عن حكمة بالغة في إدارة ملف المقاومة، بحيث انتقلت المقاومة من دائرة الردع العسكري المباشر إلى دائرة الحرب الاقتصادية التي تستنزف موارد العدوّ وتقوض مقومات بقائه، وهو ما يشكل سابقة استراتيجية في تاريخ الصراع مع الكيان الصهيوني سيكون لها آثارها العميقة على مستقبل المواجهة.
إن وراء هذه العواصف الاقتصادية والأمواج العاتية، كان الحصار اليمني يعبر عن بعد ديني وأخلاقي عميق، حَيثُ إنه مثل تجسيدًا حيًّا لمعاني الأخوة الإسلامية والتضامن الإنساني، فالشعب اليمني الذي يعاني من الخذلان ومن تداعيات الحرب والعدوان عليه لأكثر من عشرة أعوام لم يتردّد لحظة في تقديم دمائه وقدراته في خدمة إخوانه في غزة، محولًا المعاناة إلى قوة والعوز إلى عطاء.
لقد كان هذا الحصار رسالة واضحة إلى العالم أن الأُمَّــة الإسلامية قادرة على توحيد صفوفها واختيار أدواتها في معركة المصير، وأن شعوبها لا تقبل بالهوان ولا ترضى بالضيم، وأن قضية فلسطين ستظل القضية المركزية للأُمَّـة مهما حاول الأعداء طمسها أَو تغييبها.
لقد نجح الحصار اليمني المفروض على الاحتلال في تحويل البعد الديني من خطاب شعوري إلى فعل استراتيجي مؤثر، حَيثُ أصبحت العمليات العسكرية اليمنية في البحار أَو في العمق الجغرافي للكيان تصب في إطار الواجب الديني نحو نصرة المقدسات وتحرير الأرض المحتلّة، مما أعطى للمواجهة بعدًا معنويًّا يعزز الصمود ويقوي العزائم.
ومثل نموذجًا استراتيجيًّا فريدًا في تحويل نقاط القوة التقليدية للعدو إلى نقاط ضعف، والاستفادة من الموقع الجيواستراتيجي لليمن لقلب المعادلات الإقليمية، حَيثُ نجح في تحييد التفوق العسكري الإسرائيلي من خلال استهداف اقتصاده الهش، وكشف عن محدودية التحالفات الغربية في مواجهة تكتيكات المقاومة الذكية.
لقد أثبت هذا الحصار أن المعركة مع الكيان المحتلّ ليست معركة قوة ضد قوة بالمعنى التقليدي، بل هي معركة إرادات يستطيع فيها الطرف الأكثر التصاقًا بقضيته العادلة أن يفرض شروطه على الطرف الأكثر تفوقًا تقنيًّا وتسليحًا.
والأهم من ذلك، هو أن هذا الحصار أعاد للقضية الفلسطينية بعدها العربي والإسلامي الأصيل، وجسد وحدة المصير بين شعوب الأُمَّــة، حَيثُ وقف الشعب اليمني مع إخوانه في فلسطين لا من موقع القوة والغنى، بل من موقع المشاركة في المعاناة والتضحية.
إن الدروس المستفادة من هذه التجربة ستشكل بدون شك مرجعية استراتيجية للمقاومة في المستقبل، وستفتح آفاقًا جديدة للمواجهة تعتمد على استهداف نقاط الضعف الهيكلية في الكيان المحتلّ، مما يضعنا أمام مرحلة جديدة من الصراع تختلف جذريًّا عن كُـلّ ما سبقها.