ستارلينك.. القناعُ الإنساني وحقيقة الاستعمار الرقمي
إب نيوز 12 أغسطس
فهد شاكر أبوراس
تحت غطاء الثورة الرقمية التي وعدت بربط العالم، انطلقت أجهزة “ستارلينك” من مختبرات “سبيس إكس” الأمريكية كـ حَلٍّ سحري لأزمة الإنترنت في المناطق النائية، لكن خلف هذه الواجهة الإنسانية تكشف الوقائع عن وجه آخر أكثر قتامة: تحول هذه التكنولوجيا إلى ذراع استخباراتي متطور في يد القوى الكبرى، ومنها الولايات المتحدة و(إسرائيل)، اللتين تستغلانها لاختراق سيادة الدول ومراقبة تحَرّكاتها الحساسة تحت غطاء الشرعية التجارية.
إن جوهر الخطر يكمن في الطبيعة المزدوجة لشبكة “ستارلينك”،فهيليست مُجَـرّد وسيلة اتصال، بل نظامٌ متكاملٌ يجمع بين البنية التحتية الفضائية والأرضية، مصمَّمٌ ليكونَ عينًا لا تنام تراقبُ كُـلَّ نبضة على سطح الأرض.
الأقمار الصناعية التي تحلق على ارتفاع 550 كيلومترًا أقرب بكثير من الأقمار التقليدية لا تنقل البيانات فحسب، بل تولد خرائط حية لتحَرّكات الأفراد والإشارات اللاسلكية وحتى الحرارة المنبعثة من المنشآت، وهو ما تحول في أوكرانيا إلى سلاح حرب حقيقي حين مولت الشبكة من البنتاغون واستخدمت لتوجيه الصواريخ.
وهذه السابقة العسكرية كشفت النقاب عن التعاقد السري بين “سبيس إكس” ووكالة المخابرات المركزية الأمريكية (CIA) بقيمة 1.8 مليار دولار لبناء أقمار تجسس تحت غطاء مدني؛ مِمَّـا يجعل كُـلّ جهاز “ستارلينك” على الأرض بوابة خلفية للمخابرات الأمريكية.
الخطر التقني يتجسّد في ثلاث ثغرات قاتلة:
أولًا. ضعف التشفير الذي يسمح باعتراض البيانات بسهولة، خَاصَّةً في المناطق النائية، حَيثُ تستخدم هذه الأجهزة غالبًا لأغراضٍ عسكرية أَو استخباراتية.
ثانيًا. قدرة الشبكة على تحديد مواقع المستخدمين بدقة تصل إلى متر واحد عبر إشارات التثليث الفضائي؛ مِمَّـا يتيح رصد تحَرّكات القوات أَو تخزين الأسلحة.
ثالثًا. تمرير جميع البيانات عبر خوادم في الولايات المتحدة، حَيثُ تخزن وتحلل من قبل أجهزة الاستخبارات دون رقابة دولية.
وهنا تتدخل (إسرائيل) كشريك استراتيجي في هذه اللعبة، فالتعاون الأمني بين تل أبيب وواشنطن في المجال الفضائي ليس سِرًّا، وقد تجسد مؤخّرًا في إطلاق القمر الصناعي “أفق 13” والذي يعمل بتقنية الرادار النافذ للتربة والأبنية، ويرصد تحَرّكات الصواريخ في الأنفاق تحت الأرض كُـلّ 90 دقيقة فوق إيران واليمن ولبنان.
وهذا القمر المدعوم بتقنيات الذكاء الاصطناعي الأمريكية يكمل حلقة التجسس التي تبدأ بـ”ستارلينك”، فبينما توفر الأجهزة الأرضية بيانات التحَرّكات والاتصالات، توفر الأقمار الإسرائيلية الصور عالية الدقة والتوقيت الدقيق للضربات، واليمن اليوم أصبح مختبرًا حيًّا لهذا التعاون المشبوه، فالأجهزة المضبوطة في صنعاء لم تهرب لخدمة الإنترنت، بل لوضع نقاط مراقبة لرصد تحَرّكات الصواريخ الباليستية التي تهدّد (إسرائيل)، والدليل الأكثر إثارة للقلق هو التوقيت المشبوه لإطلاق “ستارلينك” في اليمن، الذي تزامن مع تصاعد الضربات اليمنية ضد السفن الإسرائيلية، ولا يمكن فصل هذا كله عن السياق الجيوسياسي الأوسع، فـ (إسرائيل) التي تعاني من فجوة استخباراتية في العمق اليمني تجد في “ستارلينك” حلًّا مثاليًّا لسد تلك الثغرة، خَاصَّة مع قدرة هذه الأجهزة على العمل في المناطق الجبلية الوعرة، حَيثُ تفشل وسائل المراقبة التقليدية.
والخطير أن هذه الشبكة صممت لتكون “مقاومة للإغلاق”، فهي لا تعتمد على بنية تحتية محلية يمكن قطعها، بل تتصل مباشرة بالأقمار الصناعية التي يتحكم فيها “إيلون ماسك” وهو رجل أعمال تربطه علاقات وثيقة بوزارة الدفاع الأمريكية والمجمع الصناعي العسكري.
التجربة الأوكرانية أثبتت أن “سبيس إكس” تستطيعُ تفعيلَ أَو تعطيلَ الخدمة في مناطق محدّدة بناء على طلب الحلفاء، كما حصل عند قطع الاتصال عن القوات الروسية في خيرسون، وهذه السيطرة المطلقة تعني أن الأجهزة في اليمن أَو غزة أَو لبنان قد تتحول بين ليلة وضحاها إلى قنابل تجسس موقوتة، أَو تستخدم لتضليل القوات المحلية بإرسال خرائط مزيفة، وهذا التهديد لا يقتصر على الجانب العسكري، بل يمتد إلى اختراق الحياة اليومية للمواطنين، فتقارير منظمة “أكسس ناو” كشفت أن بيانات المستخدمين من محادثات إلى معاملات بنكية تُباع لشركات دعائية وأطراف ثالثة عبر منصات مثل “Starshield” التابعة لـ”سبيس إكس”، والتي تعلن صراحة عن تعاونها مع “الجهات الأمنية”.
الدول المستهدفة تواجه معضلة وجودية: فغياب البدائل المحلية للاتصالات يجعل “ستارلينك” حلًّا مغريًا لأزمة الإنترنت فيها، ولكن ثمنه هو تسليمُ أسرار الأمن القومي للعدو، وحتى المحاولات لتنظيم الخدمة كما فعلت السعوديّة بفرض شركات وسيطة تبقى غير مجدية طالما التحكم النهائي في الأقمار والبيانات بأيدٍ أمريكية.
في النهاية، فَــإنَّ ضبطَ أجهزة “ستارلينك” في اليمن ليس مُجَـرّد حادثة محلية، بل جرس إنذار للعالم: فالفاصلُ بين التكنولوجيا المدنية والعسكرية قد اختفى، والفضاء الخارجي أصبح ساحة حرب جديدة، حَيثُ تخاض المعارك ليس بالصواريخ، بل بالبيانات التي تجمعها هذه الأجهزة الصغيرة التي تبدو بريئة.
القوى المستعمرة القديمة استعمرت الأرض، أما اليوم فالولايات المتحدة الأمريكية و(إسرائيل) تستعمران الفضاء الإلكتروني، و”ستارلينك” هو رأس الحربة في هذه الإمبراطورية الرقمية التي تبني سياجًا كهربائيًّا حول العالم الثالث تحت شعار “التقدم”.